العدد 41 - اقليمي | ||||||||||||||
تحسين يقين ورأفت القدرة منذ ستة عقود أو يزيد، لم تأت من البحر الأبيض المتوسط إلى غزة سوى الأسماك، وزوارق البحرية الإسرائيلية التي ما انفكّت تطارد الصيادين مضيّقةً عليهم البحر الواسع، زارعةً فيه الحدود والقيود وحتى الألغام البحرية، وملاحقةً المصطافين لاغتيالهم وهم يلهون بما تبقى لهم من لهو، وبخاصة الأطفال المحاصرون مع أسرهم. وما مذبحة دار أبو غالية على شاطئ غزة إلا شاهد دائم على ما يثيره البحر من أحزان وشجون للفلسطينيين. على غير المتوقع، سمحت قطع بحرية الاحتلال الإسرائيلي للقاربين الأوروبيين «الحرية لغزة»، و«حرية» المتضامنين مع الشعب الفلسطيني لكسر الحصار، بالوصول إلى شاطئ مدينة غزة. أن يعود الصيادون بصيدهم أمرٌ اعتاده أهل المدينة، لكن ما لم تعتده الأجيال الجديدة هو قدوم زوار من حوض المتوسط، من شماله الأوروبي، حيث تشارك بلادهم فلسطين في مشاطأة هذا البحر الكبير. للمرة الأولى منذ ستين عاماً أو يزيد، تصل المدينةَ رحلةٌ بحرية، كأن الناس هنا، بسبب طول أمد الاحتلال للبرّ الفلسطيني وبحره، فقدوا الأمل في رؤية زوار يستخدمون أقدم وسائل المواصلات وأشهرها: السفن! تمنع سلطات الاحتلال السفر من هنا، كما لا تسمح لأحد أن يسافر إلى هنا أيضاً. ما إن اقترب القاربان الأوروبيان من المياه الفلسطينية حتى انطلقت زوارق غزّية صغيرة ترحب بالقادمين من البحر، فرحين بما يأتي به البحر من بشر، يأنسون لهم، بعد طول ملل من الغرباء المحتلين هنا، فكان نصيب الفرِحين استقبال زخات من الرصاص الإسرائيلي، الذي اعتاده الغزّيون، فما كان منهم إلا أن اقتربوا رغم ذلك من الشاطئ، كأن الشاطئ بدل أن يكون نقطة تحرر، أصبح حائطاً للسجن! فرح الاستقبال لم يطق الأطفال والفتيان والشبّان الانتظار على الشاطئ، فاندفعوا بالعشرات يسبحون باتجاه القاربين مرحّبين بالركاب، الذين تجاوزوا في رحلتهم كونهم مسافرين إلى ما هو أرحب بكثير. إنه عبور إلى بحر الإنسانية غير المحدود الذي لا يعترف بقيود أوحدود. سريعاً ما انزرع البحرُ بشراً وزواراً ذوي سِحن جديدة، كما انزرع أعلاماً وفرحاً، في حين راح أطفال غزة يفحصون في تشوق وجوهَ الزوار وما يحملون، غير مصدّقين أن البحر هذا الموسم جلب لهم جديداً، يختلف عما ألفوه طويلاً من زوارق الغزاة ودورياتهم التي تثير الرعب والقتل على صفحة المياه، في الوقت الذي لم يصدق فيه كبار السن أن البحر عاد لعاداته الأولى التي فطر عليها منذ كان بحراً وسفناً وسفراً. دهشة المستوى الشعبي من سماح إسرائيل لعبور السائحين والسائحات الـ 44 الذين تقاسموا مركبين صغيرين لا يكادان يتسعان للمنام ولوازم السفر، ارتبط بدهشة المستوى الرسمي الذي لم يتفاءل بإمكانية وصول المركبين شاطئَ غزة، حيث كان سياسيو الفصائل الوطنية وضعوا سيناريوهات عدة لنهاية رحلة القاربين الأوروبيين، لم يكن من بينها الوصول للشاطئ! تخوُّف الفلسطينيين له ما يبرره. فلم يكن يُسمح قبل قيام السلطة الوطنية، وبعد قيامها أيضاً، بدخول الزوار والمواطنين إلى قطاع غزة والضفة الغربية إلا عبر الاحتلال، وبإذنه، وإلا تعرضوا للاعتقال والطرد، إن لم يكن القتل. اعتاد الغزّيون بشكل خاص عبور نقطة تفتيش في البر عند رفح، ونقطة أخرى في البر للقادمين والمسافرين عبر مطار غزة الدولي الذي تأسس في العام 1998، من خلال اتفاقية أوسلو . في حين لم يعتادوا على نقطة تفتيش بحرية للمسافرين عبر البحر من ميناء غزة، والسبب أن الإسرائيليين دمروا البنية التحتية للميناء الجديد الذي كان قيد الإنشاء. من ناحية أخرى، فإن تذكر الفلسطينيين للماضي القريب زاد من شعورهم باستحالة وصول القاربين، إذ قام الموساد بتفجير سفينة العودة في قبرص، والتي كانت وجهتها فلسطين، إبان الانتفاضة الشعبية الأولى. ميلاد الفكرة مشير الفرا، رئيس حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني في مدينة شيفلد البريطانية، يقول إن فكرة تجميع المتضامنين الدوليين والإبحار بهم إلى شواطئ غزة، بدأها في كاليفورنيا الأميركية 5 أشخاص من نشطاء السلام حول العالم (بول لارودي، جريتا برلين، ميري هيوز، ايلازيا انشاي، وبيلا). تجاوب كثيرون مع الفكرة التي بدأت بالانتشار في أنحاء العالم، باسم "لماذا لم نتضامن مع غزة"، وبدأت عملية التجهيز للرحلة وجمع التبرعات لها في بريطانيا وأميركا وأوروبا. يوضح الفرا إن الفكرة التي بدأوا العمل على تنفيذها منذ عامين تقريباً تراجعت لبعض الوقت. داهمت وكالتا الاستخبارات والـمخابرات الأميركيتين والداخلية الأميركية منزل الناشط رياض أحمد، أحد أعمدة المشروع، وصادروا كل شيء فيه، وتم تجميد حساباته البنكية التي يعود جزء كبير منها لمشروع "غزة الحرة". ونتيجة للضغط الشديد عليه اختفى هناك، وبعد يومين وجدوا جثته تطفو على سطح بحيرة. ما زال لغز وفاته محيراً رغم مضي أكثر من أربعة شهور على ذلك (وقعت الحادثة في 12 نيسان/إبريل 2008). يقول الفرا أن المجموعة تأثرت معنوياً بوفاة أحمد، لأنه كان قصدَ لبنان مرتين لشراء سفن لهذه الرحلة، كما ذهب إلى إسبانيا للغرض نفسه. واصل الفريق عمله رغم ذلك، ورغب كثيرون في المشاركة بالرحلة، لكن العدد حُدد بخمسين شخصاً فقط، لارتفاع الكلفة، وكونها التجربة الأولى، إذ توقّع القائمون عليها تعرضها للفشل. مالك السفينتين، اليوناني بنجاليس، من أشد مناصري القضية الفلسطينية، بحسب الفرا، ما دفعه لدعم الفكرة ومساندتها. رغم صعوبة الرحلة وإصابة عدد من المتضامنين بدوار البحر والإعياء الشديد وحالات التقيؤ، كان وصول خبر لمراسل وكالة "رامتان" للأنباء الذي كان على متن السفينة، بأن إسرائيل سمحت لطاقمَي السفينتين بالعبور إلى غزة دون اعتراضهما، مفاجئاً للجميع. الفرا، الذي شارك في الرحلة، يوضح أن إطلاق اسم "الحرية" على إحدى السفينتين، جاء استجابة لطلب عدد من أهالي البحارة الأميركيين البالغ عددهم 34 بحاراً أميركياً، الذين قتلتهم إسرائيل في العام 1967 حينما كانوا على متن البارجة الحربية الأميركية "ليبرتي US " لأنهم رصدوا الإسرائيليين وهم يعدمون 60 جندياً مصرياً بعد أسرهم. يقول الفرا: "طلبوا منا أن نتذكر أبناءهم، فقررنا أن نجري مراسيم في بحر ميناء لارنكا القبرصي لاستذكار البحارة الفلسطينيين والأميركيين، وقرأت كلـمة أوردت فيها أسماء 14 بحاراً فلسطينياً، قتلتهم البحرية الإسرائيلية منذ العام 2005، وألقيت وردة في البحر عند قراءة كل اسم، كما قام اثنان من زملائنا الـمتضامنين بقراءة أسماء البحارة الأميركيين، وإلقاء 34 وردة عند قراءتها». تضامن دولي سابقةُ وصول المركبين رمزية، تهدف إلى كسر الحصار المفروض على غزة، فالمركبان محدودا الحجم والمساحة، لذلك فإن المواد التي تم إهداؤها للشعب الفلسطيني «بسيطة»، كالبلالين والأطراف الصناعية للجرحى. وصول 44 متضامناً ومتضامنة من 14 دولة بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل، ورفع علَم اليونان على المركبين، يدل على تضامن إنساني ودولي، فقد ساهمت اللجنة الدولية لمواجهة الحصار ومقرها غزة، في التنسيق والمتابعة، كما أن منظمات أوروبية غير حكومية ذات علاقة باليسار الأوروبي، مولت الرحلة بشكل خاص. من بين المتضامنين ناشطة كانت أصيبت بالرصاص الحي في العام 2003 في تظاهرة ضد جدار الضم والتوسع في الضفة الغربية، وأجريت عملية جراحية لها بالأمعاء. وهناك متضامنة إسبانية (ماريا دلـمار) تعرضت قبل عامين في بلعين للضرب على كتفها من جنود جيش الاحتلال، وتم تثبيت عظم يدها اليسرى باثني عشر سيخاً من الحديد. والمتضامن أندرو، أمضى أربعة أشهر في سجون الاحتلال، وتم إبعاده. تبرز لورن بوث، شقيقة زوجة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، شاركت هي الأخرى في الرحلة. ولوحظ وجود بعض المتضامنين من أصول فلسطينية وعربية، ممن يحملون جنسيات أوروبية وأميركية. انطلقت الرحلة من اليونان، ثم تجولت في «المتوسط» رافعةً العلم اليوناني، حيث توقفت على شاطئ كل من جزيرتي رودس وكريت، وانتهاء بجزيرة قبرص كبرى جزر المتوسط، ومنها إلى فلسطين، بكل ما تحمل الرحلة من دلالات. رحلة السلام رحلة بحرية صعبة قامت سلطات الاحتلال بتفتيش المركبين في ميناء لارنكا من قبل عناصر من المخابرات الإسرائيلية، وفقاً لمراسل إذاعة الجيش الإسرائيلي. وتلقى الزوار رسالة من الخارجية الإسرائيلية، تعبر فيها بلغة شبه دبلوماسية، عن افتراضها حسن النوايا لدى المتضامنين، ولكن مع اتهامهم بدعم «مجموعات إرهابية». وعند الوصول إلى شاطئ غزة، ظهر عدد من المتضامنين في وسائل الإعلام متأثرين حد البكاء، ولم يخفوا مشاعر السعادة عند استقبالهم بحرارة الترحيب. وكان المتضامنون قرروا فور انطلاق المركبين، تشكيل مجلس تنسيقي يتحمل مسؤولية اتخاذ القرارات، حيث تم اختيار 5 أشخاص هم: مشير الفرا (بريطاني)، فنجاليس (يوناني)، جريتا برلين وبول لارودي (أميركيان)، وجف هلبر (إسرائيلي، ناشط ضد هدم البيوت في القدس المحتلة بشكل خاص). وكانت القرارات تؤخذ بالأغلبية. نشاطات المتضامنين في القطاع قام الزوار المتضامنين بزيارة المستشفيات، ونقل رسائل إعلامية تفضح إجراءات الاحتلال. وشارك عدد كبير منهم في اعتصامات أهالي الأسرى أمام الصليب الأحمر في غزة، ورصدت كاميرات التصوير تأثر المتضامنين بالأوضاع في غزة. ووصف عدد منهم إسرائيل بـ«أسوأ نظام عنصري في العالم». إيفون ردلي (متضامنة إيطالية) دعت إلى «توحيد حوض المتوسط، وتحرير شعوبه من البربرية». توم نيلسون (أميركي)، دعا العالـم للتنبه إلى ممارسات إسرائيل غير القانونية وجرائم الحرب التي تقوم بها ضد الشعب الفلسطيني. وقال: «هذا أسوأ مكان في العالـم، حيث يعاني الناس في كل مجالات الحياة ويواجهون نقصاً كبيراً في الطعام والدواء والبنزين". وأكد نيلسون أن ما يجري في الأراضي الـمحتلة ليس خطأ إسرائيل وحدها، بل خطأ الولايات المتحدة التي تدعمها أيضاً. وشارك عدد من المتضامنين في رحلة صيد بحرية وصلت إلى أبعد مسافة داخل البحر، (13 كيلو متراً)، لم يكن أحد من قبل يحلم بالوصول إليها. ردود فعل شعبية ورسمية رغم الترحيب الشعبي العام وترحيب فصائل العمل الوطني بالمركبين المتضامنين، إلا أن وجوداً ظاهراً لطرف أكثر من غيره في مراسم استقبال المتضامنين هو حركة «حماس»، حدّ من التفاؤل الشعبي بأن يكون لهذه المناسبة أثر في توحيد الفلسطينيين وتضامنهم، إذ لا يعقل أن يتضامن أجانب مع غزة بينما أهلها لا يتضامنون معا، يقتتلون ويتنازعون تحت الحصار. على المستوى السياسي، تفاوتت ردود الأفعال، من دعوة الدول العربية للاقتداء بالمتضامنين الأجانب، والمقصود بذلك مصر، كما صرح إسماعيل هنية رئيس الوزراء المقال، وفيصل أبو شهلا النائب في التشريعي، وإياد السراج منسق اللجنة الدولية لمواجهة الحصار، بينما اكتفت كل من المبادرة الوطنية وحركة فتح وفصائل اليسار بالترحيب بالمتضامنين. فرحُ الفلسطينيين بنجاح المركبين بالوصول إلى غزة، بعد عشرات السنين في انتظار سفن زائرة، امتزج بتخوف من منحهم هامشاً ضئيلاً من السيادة على المياه، على طريق إقامة دولة فلسطينية في غزة، في حين تترك الضفة لمفاوضات سرمدية. وحينما يفرح الفلسطينيون، فإنهم لا يتخلصون من مخاوفهم من سياسات الاحتلال التي تتعذر الثقة بها. |
|
|||||||||||||