العدد 41 - كتاب
 

تميل النظرة التقليدية والأفكار الشائعة، إلى الاعتقاد بأن النشاط الاقتصادي الواضح المعالم، والذي يكون على شكل استثمار مالي أو مشروع لاقامة مصنع أو مركز تجاري او تشييد المباني والطرق والجسور، وما الى ذلك من مشاريع او برامج اقتصادية ترصد لها موازنات مالية للتنفيذ، هو وحده النشاط الاقتصادي الذي تنتج عنه آثار اقتصادية تنعكس على المجتمع الذي يقام فيه مثل هذا المشروع الاقتصادي، وذلك على شكل أجور عاملين، وأجور نقل، وأثمان مواد ومدخلات أولية وتكاليف إدارة وتجهيزات وطاقة وغيرها من احتياجات أساسية.

هكذا يحلو لخبراء الاقتصاد والمال وواضعي الخطط الاقتصادية وراسمي السياسات العامة في هذا البلد او ذاك، أن يدعوا ولا يعيروا وزناً للنشاطات ذات الطابع الاجتماعي والسياسي وبالتأكيد النشاط الثقافي، حيث ينظر الى الانشطة الثقافية، والمقصود هنا، كل النشاطات المتعلقة بالفنون والاداب على الوانها وبمختلف اشكالها الإبداعية، على أنها انشطة ترفيهية وترويحية أحيانا، أو أنشطة أوقات فراغ وعبث وتسلية أحياناً أخرى، وهي بنظر هؤلاء أنشطة استهلاكية بحته غير انتاجية على افضل تقدير.

إلا أن الحقيقة التي لا يمكن أن يتجاهلها اي اقتصادي، هي أنه ترصد لكل نشاط إنساني، مهما كانت طبيعته، مخصصات مالية ليتم صرفها على اعداد وتنفيذ وانجاز هذا النشاط، بغض النظر إن كانت هذه المخصصات قليلة او كثيرة، لها أثر افتصادي يتناسب طرديا مع حجم الموازنة او المخصصات المالية المرصودة له، وينطبق هذا التعريف تماما على الأنشطة الثقافية كافة، حتى تلك التي تقدم للجمهور والعامة دون مقابل (مجانا)، كما يحدث مرارا وتكرارا في كل انحاء العالم وفي الأردن أيضا، ومثال ذلك مشاريع او ما اصطلح على تسميته، مدن الثقافة الأردنية، والتي رصدت لها موازنات وصلت المليون دينار لمدينة إربد العام 2007 وسبعمائة وخمسين الف دينار لمدينة السلط العام 2008.

لقد اجريت العديد من الدراسات العلمية التي تقيس الأثر الاقتصادي للنشاط الثقافي بأنواعه في دول مختلفة، وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تعتبر من اكثر دول العالم اعتناء بالأنشطة الترفيهية والترويحية والتي تدخل في باب الفنون والثقافة من مهرجانات واحتفالات تقام في مواسم ومناسبات لا حصر لها، وعلى مدار السنة، وتندرج الغالبية العظمى منها في باب النشاطات المجانية، والتي تقوم على اعدادها وتنفيذها منظمات ومؤسسات اهلية او شبه حكومية جميعها غير ربحية.

من هذه الدراسات، دراسة أجريت في الولايات المتحدة عام 2005، توصل القائمون عليها الى نتائج ملفتة للانتباه، فقد وجدت هذه الدراسة بأن نشاطات قطاع المنظمات الثقافية التطوعية الأميركية قد احدث (ولّد) نشاطات بقيمة 166 بليون دولار أميركي، ساهمت بخلق 5.7 مليون فرصة عمل في مختلف المجالات، أي لم تقتصر على فرص العمل للفنانين والمبدعين المشاركين فقط، وإنما شملت معظم القطاعات والمهن والحرف بصورة عامة، كما حصلت حكومات الولايات والحكومات المحلية على حوالي 30 بليون دولار من الإيرادات الضريبية على انواعها، وذلك في الوقت الذي لم تقدم فيه هذه الحكومات اكثر من 4 بلايين دولار كدعم مباشر للأنشطة الثقافية تلك.

اما عدد هذه المنظمات الثقافية التي شملتها الدراسة فقد بلغ ما يقارب المائة الف منظمة ثقافية غير ربحية، تعمل في كل ارجاء الولايات المتحدة، على مستوى المجتمعات المحلية حيث تساهم هذه المنظمات، حسبما هو معروف، ليس فقط في خلق فرص العمل والعائد المادي، اضافة لما تخلقه من أجواء الفرح والمتعة والتسلية، فهي تساهم ايضا في اعادة احياء المدن والقرى والمجتمعات المحلية، لتجعل منها مجتمعات حية يدب فيها حراك وتواصل إنساني دؤوب وخلاّق ما كان ليحدث لولا الدور الاساس الذي تلعبه الانشطة الثقافية موضع الدراسة.

أما إذا أردنا الحديث عن الجانب الآخر للنشاط الثقافي، أي النشاط التجاري، والذي يقوم على انتاج الأعمال الفنية وإقامة المهرجانات الثقافية ونشر الكتب والمؤلفات وانتاج المسلسلات والأفلام السينمائية، فإننا لسنا بحاجة الى تقديم الارقام والشواهد المادية التي تدلل على أن النشاط الثقافي ذا الطبيعة التجارية، هو نشاط اقتصادي بامتياز، ويلعب دورا كبيراً جداً في الاقتصاد الوطني لأي دولة استطاعت أن تجد لنفسها مكاناً متقدماً في عالم الانتاج الثقافي على أنواعه.

و يعد كل قطاع من قطاعات الإنتاج الثقافي التجاري، بمفهومه الواسع، صناعة ضخمة قائمة بحد ذاتها، فهناك صناعة السينما والإنتاج التلفزيوني، وهناك صناعة الموسيقى العملاقة، وأيضاً هناك صناعة دور النشر والطباعة ومعارض الكتب، وغيرها الكثير من الصناعات الثقافية أو الصناعات الرديفة أو المكملة لها، والتي تعد ركناً أساسياً لا يقل بأهميته عن القطاعات الصناعية التقليدية مثل الصناعات التعدينية أو التحويلية أو صناعة تقديم الخدمات أو الصناعة السياحية، أو أية صناعة أو تجارة تقليدية أخرى.

السؤال هنا: هل للنشاط الثقافي في الأردن بجميع أنواعه، أثر ملموس على الاقتصاد الوطني؟ وهل تبرع أحد بقياس أو تقدير قيمة مساهمة القطاع الثقافي في الناتج المحلي الاجمالي؟ وهل الأثر الاقتصادي للنشاط الثقافي يعاني من الإهمال وقلة التقدير، بحيث أنه بقي شأناً لا قيمة له في حسابات الأرقام الاقتصادية، مثلما بقيت النظرة المستخفة (رسمياً وشعبياً)، بكل ما له علاقة بالثقافة من فنون وموسيقى ومسرح ومسلسلات وكتابة أدبية وشعرية؟

ربما يكون الجواب غير مرغوب فيه، فبحسب اعتقادنا، أن الثقافة بمفهومها العام، ما زال ينظر اليها كحاجة غير أساسية، وهي اكسسوارات تجميلية وتكميلية للمشهد العام الذي تطغى عليه عناوين السياسة والتجارة والبورصات والسمسرة العقارية والاستثمارات، وبالتالي، فإن الثقافة، لا يلتفت الى شؤونها أصحاب القرار، ولا يعيرها من يتصدرون رسم وتوجيه السياسات الاقتصادية، ويساندهم القائمون على العمل الثقافي وأصحاب قراره، أي اهتمام جاد يجعل للثقافة دوراً هاماً في الاقتصاد الوطني، كدور القطاعات الأخرى المدللة مثل السياحة والصناعة والتجارة والعقارات.

مازن مرجي: الأثر الاقتصادي للنشاط الإنساني
 
28-Aug-2008
 
العدد 41