العدد 40 - أردني
 

سوسن زايدة

كثيرات هن الجامعيات اللواتي عشن سنوات الدراسة الجامعية بانطلاقة وحماسة، وغادرنها حاملات ما تيسر من ذكريات جميلة تلطف واقع الحياة العملية والزوجية. لكن عائشة أنهت حياتها الجامعية حاملة معها ذكريات ثقيلة تحاول نسيانها.

تصف عائشة نظام السكن التابع للجامعة الأردنية، بصرامته التي تلامس إجراءات مراكز الإصلاح: «تغلق أبوابه شتاء في تمام الساعة الثامنة مساء، وصيفا في التاسعة. بعد إغلاق الأبواب تقوم المشرفة بتفقد الطالبات في غرفهن. التي تحضر منهن متأخرة، ولو لدقائق قليلة تعاقب. فعليها الانتظار في المدخل إلى أن تنهي المشرفة عملية التفقد، أي حوالي ساعة كاملة، تخضع بعدها لاستجواب يصل في أحيان كثيرة إلى الإساءة للطالبة وإحراجها أمام زميلاتها. أما التي تصل بعد انتهاء مدة التفقد، ودون إذن مسبق بناء على طلب ولي أمر الفتاة، فتتصل المشرفة بأهلها لإبلاغهم بغياب ابنتهم. وبالطبع لا يسمح للطالبة بالمبيت خارج السكن إلا بإذن مسبق من ولي الأمر.

في بداية الفصل الدراسي تجمع المشرفة من الطالبات جداول المحاضرات لمعرفة مواعيدها اليومية. والتي لا تعود وقت انتهاء المحاضرات، أو عندما يأتي وقت إغلاق الباب، تتعرض لأسئلة وتعليقات المشرفة المسيئة والمشككة في سلامة سلوكياتها، «الله أعلم وين ومع مين كنت»، «كنت في المقاهي»، وتصل أحيانا إلى توجيه الشتيمة لها والصراخ عليها أمام زميلاتها: «أنت سايبة، أنت ماشية على حل شعرك»، تقول طالبة مقيمة في السكن، تمنت عدم ذكر اسمها، لمعرفتها بقسوة المشرفة لو عرفت هويتها.

«عشنا في رعب - تقول عائشة - أخرج مع صديقاتي وأعود إلى السكن في الوقت المحدد، لكن كيف يمكن إقناع المشرفات أنني كنت مع صديقاتي. لدى المشرفات قناعة كاملة بأن كل من تتأخر لغاية الساعة الثامنة، فالتة وفاسدة وماشية على حل شعرها».

وتشير إلى أن هنالك طالبات لا يتحملن الإهانات ويتصادمن مع المشرفات، فيتم تحويلهن إلى عمادة شؤون الطلبة في الجامعة، للتحقيق معهن، وقد يصل الأمر حد الطرد من السكن. «مهما حصل، الطالبة دائما هي المذنبة. ليست هناك عدالة».

ولا يسمح للطالبات باستقبال الضيوف في غرفهن. باستثناء الأب والأخ، لا يسمح باستقبال الذكور في قاعة الانتظار، أو حتى دخول بوابة السكن، رغم وجود لافتة في قاعة الانتظار تقول: «الزيارة مسموحة للأهل والأقارب. أوقات الزيارة من 1:00 وحتى6:00».

الأنظمة الصارمة تشمل أيضاً استقبال الطالبات للمكالمات الهاتفية. فللمشرفة الحق في معرفة هوية المتصل ورفض تحويل المكالمة إذا كانت من شاب من غير الأقارب. وعلمت «ے» أن معظم طالبات السكن يدركن أن الهواتف مراقبة.

«عندما أتكلم بالهاتف، أسمع صوت رفع السماعة الأخرى، وأشعر بوجود شخص آخر على الهاتف»، تقول إحدى المقيمات في السكن. وهو ما تؤكده انتصار، طالبة كانت مقيمة في السكن. «نعم يراقبون التلفون.. فليراقبوه، ماذا نفعل.. لا شيء بأيدينا».

الوقوف أمام شبابيك الغرف ممنوع أيضا. «لا توجد مراوح في الغرف، والجو خانق في الصيف، ممنوع أن نرتدي ملابس خفيفة أو أن نقف على الشباك، رغم أننا داخل أسوار الجامعة والشجر الكثيف يحيط بنا بحيث لا يرانا أحد»، تضيف طالبة أخرى: «إذا رأوك واقفة على الشباك يا ويلك، عليك كتابة تعهد».

تدخُّل المشرفة لا يقف عند هذا الحد، فهي تملك أيضا صلاحية التدخل في نوعية لباس الطالبات ومكياجهن، داخل السكن وخارجه. كما يحق لها تفتيش الغرف في غياب قاطناتها، وهي تستخدم في ذلك مفتاح الاحتياط لمداهمة الغرفة ومباغتة من فيها (كبسة)، حتى دون طرق الباب وانتظار إذن الدخول، بحجة الاشتباه باقتناء طالبة لأحد الممنوعات، مثل الدخان أو الأرجيلة.

«كل شيء ممنوع في السكن، تقول عائشة، لا يوجد تلفزيون ولا ثلاجة. والدخان ولعب الورق ممنوع، حتى استخدام الكمبيوتر ممنوع سوى لطالبات البرمجة، والإنترنت ممنوع أيضا. وكأننا في سجن.. لو كنا في سجن لن نكون مقيدين في مثل هذه القيود، كأننا نعيش في جحيم. يقولون إن السكن هو بيتنا الثاني، هذا فقط كلام ليس أكثر».

لا تثق المشرفة، كما الأهل، بالفتاة كإنسانة ناضجة قادرة كالشاب على عيش حياتها بحرية دون أن تكون عرضة لما تعتبره «انحرافا»، فالفتاة في نظر مشرفة السكن والمجتمع، مخلوق ضعيف «منقوص العقل والدين» يحتاج لرقابة دائمة ووصاية لا تنقطع.

تروي إحدى المقيمات في السكن قصة صدام حدث بين زميلتها والمشرفة على خلفية تأخر الأولى. فاستدعت المشرفة أهل الطالبة وأطلعتهم على مخالفة ابنتهم للقوانين بتأخرها، إضافة إلى ملاحظات حول تغيرات طرأت على لباسها وصديقاتها. وعندما عادت للبيت اعتدى عليها أهلها بالضرب.

«الأهل راضون عما يجري. كنت أشتكي لأهلي فيقولون إن هذا أفضل وأكثر أمنا»، تقول عائشة. وتوافقها انتصار التي ترى أن القيود المفروضة من المشرفات هي بإيعاز من الأهل: «الأهل يفرضون قيودا على بناتهم، في المنزل، ويشجعون المشرفات على هذه الممارسات في السكن الجامعي».

«هناك من الأهالي من يفضلون أنظمة السكن وطرق معاملة المشرفات، ويريدون أن يمارس الضغط على بناتهم، وهناك أهالي يعترضون عليها»، تقول إحدى الطالبات. وتنقل عن المشرفات مقولتهن «المتكررة»: «أهلك وضعوك هنا كأمانة، ونحن نريد أن نكون بقدر الأمانة».

تختلف ظروف سكنات الطالبات الخاصة عن الحكومية. فبحسب نور التي أقامت في سكن خاص، فإن ظروف السكن الخاص بالطالبات خارج أسوار الجامعة أفضل منها في الجامعات الحكومية. «ے» اطلعت على ظروف السكن الخاصة بطالبات في سكن خاص بمدينة إربد. فلاحظت أن المشرفات لا يتدخلن في تفاصيل الحياة اليومية للطالبات: «التقييد الوحيد الذي حد من حريتي هو أن السكن يغلق الساعة التاسعة مساء، فلا يسمح لنا بعدها الخروج أو الدخول من السكن»، تقول إحدى الطالبات القاطنات في سكن خاص بالطالبات بمدينة إربد.

وتختلف تجربة عائشة ونور عن تجربة فادية التي عاشت في سكن خاص بها خلال سنوات دراستها في جامعة دمشق بسورية، فهي تستذكر تجربتها بسعادة متمنية استعادتها. فالاستقلال في السكن بالنسبة لفادية يعني تحقيق الذات والشعور بأنها قوية ومسؤولة عن نفسها. «كوني مستقلة ومسؤولة عن نفسي بكل تفاصيل حياتي اليومية يساعدني على تحقيق ذاتي. أريد أن أرسم يومي بنفسي. لا أحب الشعور بأني طفلة صغيرة عندها مواعيد يجب أن تأتي وتخرج فيها، حتى في البيت لا أحس باستقلالية، وهو ما يشكل عبئا نفسيا علي».

مديرة دائرة المنازل الداخلية، رجاء الصباغ، قالت إن هنالك نماذج يعبئها أولياء الأمور لدى إدخال بناتهم المنازل الداخلية، وتتضمن شروط الإقامة بما فيها مواعيد الدخول والخروج. ويمكن لولي الأمر تحديد مواعيد خاصة بابنته على أن تكون ضمن المواعيد التي تقررها الإدارة، والإدارة مكلفة بتبليغ ولي الأمر بأي تأخر لابنته عن الموعد الذي حدده لدخولها وخروجها.

كل محاولة للضغط على حرية الفرد دون أي مشروعية، بالنسبة لبلال الجيوسي، أستاذ علم النفس في جامعة البترا وعميد شؤون الطلبة فيها سابقا، يسبب أذى نفسيا له: «أولا، إحساسه العميق بالحرية وهو جزء من إحساسه بإنسانيته. ثانيا، يؤثر في تقديره لذاته. وثالثا، يدفعه إلى أعمال يقوم بها سرا، فيتعلم دروبا من الكذب والتهرب لا داعي لها، وهو ما يترك أثرا سيئا في علاقاته».

«عندما تكون الطالبة في غربة، وتزيد من غربتها الضغوط الأكاديمية، فإنك تجدها تعيسة بدل أن تكون سعيدة في أجمل مرحلة في حياتها»، يقول الجيوسي الذي يدرك أن هذا الضغط يمكن أن يترك إحساسا قويا بالتمرد. «والتمرد له جانب إيجابي، إذا كان عقلانيا يساعد الإنسان على تحقيق ذاته، ولكنَّ له جانبا سلبيا عندما يتمرد على السلطة أيا كانت»، يقول الجيوسي.

ويعزو أستاذ علم الاجتماع، د. سرّي ناصر، القيود المفرضة على الطالبات إلى أن مجتمعنا ما يزال مجتمعا تقليديا، وتلعب الأسرة دورا محوريا في سلوك الإنسان فيه، وسلوك الإنسان لا ينعكس على نفسه فقط، بل على الأسرة بأكملها. «من هنا نجد أنه ما زال مطلوبا من الفتاة في مجتمعاتنا أن تقوم بدور تقليدي، وأن لا تقوم بأي سلوك قد يؤثر تأثيرا مباشرا أو غير مباشر في أسرتها».

«بصرف النظر عن كل ما يقال أو ما يجري من برامج لإعطاء المرأة حقوقها، فهي ما زالت تعاني من عدم بروز هوية خاصة بها في المجتمع، كأن يقال إنها بنت فلان أو زوجة فلان. وهي لا تستطيع التصرف كما يحلو لها عندما تصبح ناضجة في تصرفاتها لأن المعايير التقليدية تفرض عليها دورا معينا. لذلك فهي تسلم من الأب إلى الزوج وفي الحالتين تكون تحت الوصاية»، يقول ناصر.

رغم كل المؤشرات على تطور نوعي في وعي الفتاة الأردنية، وهو تطور تكفي نظرة واحدة على نسب نجاح الإناث إلى الذكور في الثانوية العامة وفي الجامعات وفي مستوى التحصيل العلمي، للتدليل على مدى جدية الفتاة ونضج وعيها وإحساسها بالمسؤولية الاجتماعية، ومع ذلك فهي مازالت في نظر بعضهم «ضلعا قاصرا»، أو «عورة»، وإنسانيتها محصورة في جسدها، لذا فإنها تحتاج لوصاية الرجل، أو من ينوب عنه، حتى لو كان أقل شأنا منها.

تضييق على النزيلات بـ“مباركة” من الأهل
 
21-Aug-2008
 
العدد 40