العدد 40 - أردني
 

علي بدر

توصف الروائية النمساوية فريدة يلينك بـ«الكاتبة المجادلة». إذ تتسم رواياتها ومسرحياتها ومقالاتها بالتحليل الدقيق والمعمق للموضوعات الحساسة: الجنس والعنف والسيطرة، مثيرةً الجدل في الأوساط الثقافية والإعلامية، لا لنقدها الحاد والشامل للمجتمع النمساوي الذي تصفه بأنه مصاب بمرض نسيان التاريخ، وتتهمه بالنازية والفاشية والحنين للعنف والقوة والهيمنة، ولا لأنها الكاتبة النسوية المتهمة بالخلاعة المتفلتة والتي ترى في تاريخ المرأة تاريخَ فناء المرأة، فقط، إنما أيضاً بسبب علاقتها المتوترة على الدوام مع السلطة السياسية في بلدها، والتي أخذت منحى الحملات المتكررة عليها، بخاصة من اليمين المتطرف الذي رفع شعار «تريد الثقافة أم يلينك؟»، ولعلاقتها المحتدمة مع الأحداث السياسية في العالم: مواقفها الصارمة من الحرب على العراق، مواقفها الشاجبة لسلوك الولايات المتحدة في العالم، فضحها لتحكّم القوى الكبرى وتهميش العالم الثالث، النضال في وجه الظلم الاجتماعي، الفوارق الطبقية، وهيمنة الشركات العابرة للقارات.

يلينك، الحائزة على جائزة نوبل (2004)، حظيت مؤخراً بترجمة أعمالها الكاملة للفرنسية، والتي صدرت عن دار Fayard الفرنسية.

وُلدت هذه الروائية في فيينا العام 1946، بدأت حياتها عازفة بيانو، درّست الموسيقى في معهد فيينا للموسيقى، وكانت تعيش وضعاً نفسياً مضطرباً ورثته عن والدها اليهودي التشيكي، الذي عمل طويلاً في الأبحاث الموضوعة لخدمة الحرب، ما أبقاه بمنأى عن ملاحقة النازيين، إلا أنه انتهى مجنوناً في مصحّة نفسية حتى وفاته.

كتبت يلينك روايتها الأولى «إننا طيور الإغراء يا صغيري» وهي في حالة اضطراب نفسي شديد وفي عزلة تامة عن المجتمع. وكان صراعها ضارياً ضد مجتمعها وضد أمها العصامية البرجوازية المحافظة ،التي روّضت الابنة لإتقان الكثير من الفنون.

نصوصها أقرب إلى الوعظ الأخلاقي القاسي منه إلى الشهوانية المتفلتة، أو الفضائحية الاجتماعية كما اتهمها بعض النقاد. فالمشاهد الجنسية العنيفة والقاسية تثير في القارئ التقزز والنفور أكثر مما تثير فيه الشهوة والرغبة. ذلك لم يمنع أن تُثار حفيظة المجتمع النمساوي ضدها، كما وقفت النخبة السياسية ضد كتاباتها لما تضمنته من كشف لاذع للمجتمع الطبقي وإدانة للتراتب العنيف.

دانت كتابات يلينيك السردية والمسرحية الظلمَ الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، وفضحت ممارسات النظام الذكوري والسياسة اليمينية في بلدها. ورغم الحملات القاسية التي شنتها الصحافة عليها، إلا أنها واصلت مسيرتها بهمّة، مدافعةً عن أفكارها ورؤاها.

يلنيك أيضاً واحدة من أكبر الكاتبات «النسويات» في العالم، إذ أوقفت كتاباتها على فضح القهر الذي تعاني منه المرأة، والفناء البطيء والانسحاق الكلي الذي تعيشه، والذي ينتهي ببطلاتها على الدوام إلى فكرة التدمير الذاتي والانتحار. وهي تضع المرأة في العالم المعاصر جنب الأقليات والمهاجرين والملونين. وتعد كتاباتها ونصوصها لغة استاطيقية عنيفة تُستخدم بالضد من العنف المنبعث من قوى السيطرة والهيمنة، ضد الشرور والاستسلام المذلّ والانسحاق المهين.

كتب الناشر في مقدمة الأعمال الكاملة أن صور الجنس ومشاهد القسوة والعنف تتمازج بشكل كامل في الأعمال السردية والمسرحية ليلينك، فضلاً عن لغتها الرمزية والإيحائية والغموض الذي يتخللها. ففي رواية «عازفة البيانو» تصور يلينك حياة أريكا كوهوت، العانس في منتصف الثلاثينيات، وقد اختارتها أمها المستبدة لتضحّي بها على مذبح الفنّ، فتهيئها بعناية فائقة وتجعلها تتدرّب بقسوة على آلة البيانو لتصنع منها فنانة كبيرة، غير أنها لم تكن موهوبة بما يكفي، وبدلاً من ذلك تعمل معلمة في معهد فيينا الموسيقي.

البراعة الفنية التي تقدمها يلينك في هذه الرواية تتجلى في التصوير الحي لبطلتها وهي منطوية على نفسها في المنزل، مقهورة ومطيعة لأمها، غير أن لـ«أريكا» في الجانب الآخر حياة أخرى تماماً، حياة مختلفة كلياً عن حياتها في منزلها أو في مكان عملها، فهنالك جانب منحرف في حياة أريكا لا تستطيع قمعه، إذ تخرج في الليل متسللة نحو أحد الملاهي الليلية، أو تذهب إلى المتنزه المحليّ حيث يلتقط الأتراك والصربيون والكروات المهاجرون العاهرات من هناك. كانت أريكا تدرب نفسها ليلاً على حياة مومس تخضع للتهديد والضرب والركلات، وتعيش ظروفاً تعيسة قاهرة، ثم تعود صباحاً لتعيش حياتها الطبيعية كمحافظة، وقورة، ومعلمة منضبطة، إلى أن تقع في حبّ أحد طلابها، والتر كليمير، غير أن أريكا تفضح ميولها المازوشية أمامه وتطلب منه أن يعذبها بالركل والضرب قبل أن تنام معه. حبُّها لطالبها اللامع يُربك حياتَها المنظّمة والمحترفة وعالمها الصارم عاطفياً في البيت مع أمّها، ما يدفعها إلى كتابة رسالة مطولة له تشرح فيها تخيلاتها المفسدة، وتسأله: هل أشعرتك بالقرف؟.

تبقى أعمال يلينيك مصدر جدل ونقاش في عموم العالم الأوروبي، بخاصة بعد حصولها على جائزة «نوبل». هذا ما تنتهي به مقدمة الناشر الفرنسي لأعمالها الكاملة.

يلينك: نحن مصابون بمرض نسيان التاريخ
 
21-Aug-2008
 
العدد 40