العدد 40 - دولي
 

جهاد هديب

الصين القديمة ظهرت في صورة بالأبيض والأسود، جيء فيها برجل "منشق" في الستينيات، مرتديا ثياب الإعدام وأُدخل رأسه إلى ما يبدو أنه مقصلة للإعدام، ويقف جندي فوقه ضاغطاً رأس الرجل المنحني بيدين مقيدتين إلى ظهره، فيما أدار فصيل الإعدام ظهره للرجل الذي التقط تلك الصورة والسلاح مصوَّب باتجاه الرجل المجبر على الانحناء.

رسم ذلك القتيل بعينه الذاهلتين صورة لصين ماو تسي تونغ بحكامها العسكر الشيوعيين، وكأنما الموت هناك يمشي مع الناس في الشارع ويتدفق مع الأنهار. هذه الصورة حفرت عميقا في ذهن ذلك الجيل الذي بدأ وعيه يتفتح منتصف الثمانينات وينحو يساراً هو أكثر قرباً إلى صنمية بلشيفية.

ليلة افتتاح دورة الألعاب الأولمبية بدت الأمور مختلفة، إلى حد أن المضامين التي بثتها الرسائل العديدة خلال الافتتاح تشير ببساطة إلى أن "الرفاق" الصينيين، أو القيادة الصينية تحديدا، كانت بانتظار هذا الحدث – المناسبة للرد على "الملفات" التي غالبا ما يقوم الغرب بفتحها، بهدف تحقيق مكتسبات اقتصادية وثقافية وسياسية على حساب الوجود الصيني في العالم، وعلى ديناميكية هذا التواجد اللافتة للانتباه.

خرج محتجون في عواصم عديدة من العالم إلى الشوارع وطالبوا بمقاطعة الصين، لا الألعاب الأولمبية فقط، حتى بلغ الأمر مبلغاً سوريالياً حين أقدم تركي في أنقرة على إحراق نفسه احتجاجا على عقد الدورة في الصين، علماً بأن عادة إشعال النار في الذات هي ما يُقدم عليه الكُرد في احتجاجاتهم على أوضاعهم في تركيا.

تجندت الصين لإفشال المحاولات الجارية في العالم لنزع نجومية الافتتاح الكوني للدورة الأولمبية، والحضور القومي أمام العالم في أجواء احتفالية باهرة وباذخة ورفيعة، تحمل الإجلال الكبير لأمة عريقة الحضارة ولا تخلو من اعتزاز بالذات والتباهي الموَجَّه إلى عالم مشكوك في عراقته.

الرسائل التي بثها الصينيون عبر الافتتاح، للعالم عموما، وللغرب تحديداً تثير اهتمام المتفرج العربي. فقد اقترح "العقل الصيني" صورة عن الصينيين؛ عن الذات، مشتقة من فكرتهم الثقافية عن أنفسهم. ممالأة فيها من طرف ضعيف لآخر قوي، بل هي صورة نابعة من ثقافة عميقة لأمة قديمة، وليست طارئة في حضورها على العالم وعلى المعرفة. يا له من لَعِب كبار.

قالوا: إن اشتراكية الحزب الشيوعي الصيني الذي يقود البلاد منذ العام 1949 لم تلغ الكونفوشية، ولا ما اقترحته الحضارة الصينية على التجربة البشرية عبر هذا الزمان الطويل من أفكار واختراعات؛ الطباعة (الغرافيك) القائمة على الأساس العلمي ذاته لاكتشاف غوتمبيرغ الألماني للطباعة على نحو ما نعرفها اليوم، الورق والبارود وأخيرا البوصلة.

أغلب الظن أن للبوصلة قراءة أخرى، ولم يذكرها الصينيون عبثا. باكتشافهم ذاك، أنهى الصينيون واحدة من الأساطير الغربية العريقة. أسطورة عوليس، نصف الإله التائه إلى الأبد في البحر، فما من تيه بعد اختراع البوصلة، وكل مَن غدا تائها عُدَّ أحمق، معرفيا على الأقل، وليس له صلة بالمنجز الحضاري البشري.

لكن جملة هذه الرسائل، بالمقابل، لم يجر بثها إلى أي متفرج بمعزل عن الأداء والشكل اللذين بهرا العالم وأمتعاه. ليس سهلا أو عابرا بث الإحساس لدى الآخرين عبر الكريوغراف (تصميم الرقصات) وحده، أو عبر "عولمة" أخرى نابعة من الذات بمعزل عن العولمة الغربية، مثلما يقترحها الغرب ويسعى لفرضها على العالم لا على الصين، الأمة المكونة من 56 قومية ب56 لغة، والتي بلغ الناتج القومي المحلي فيها عام 2001 3،1 تريليون دولار تضاعف هذا العام إلى 6.3 تريليون.

الصورة التي رسمها الصينيون عن أنفسهم بدت بالأحمر فقط، وخلف هذا الأحمر تراءت ألوان أخرى عديدة.

بحسب الصينيين، وعلى لسان الرئيس الصيني: "أبدا، لم يكن العالم في حاجة إلى فهم متبادل أو تسامح ديني متبادل وإلى شراكة متبادلة، كما يحتاج إليها الآن"، أي أن الصين لم تكن متألقة مثلما هي الآن. وقد حدث ذلك في حين لم يسمح الصينيون إلا لرايتهم أن تكون الكبيرة والوارفة، فيما بدا مضحكاً مشهد بوش وهو يلوح براية الولايات المتحدة التي تشبه تلك التي يلوح بها الأطفال.

الرسالة السياسية الهادئة على ما فيها من عمق وتهذيب آسيويين، تعبر عن سِعَة الاختلاف بين حضارتين تتنافسان على امتداد العالم؛ ، لكن ليس على الأرض الصينية، أو أرض الغرب، بل أرض الآخرين.

ليست القيادة الصينية هي الجديرة برفع القبعة وأداء تحية الاحترام من العالم الذي يرفض هيمنة الغرب الأميركي، إنما الكوريوغرافيون والمؤلفون الموسيقيون وراسمو المشهد السينوغرافي الذين حوّلوا تلك الأفكار عميقة الدلالة الثقافية والمعرفية الصلبة إلى مادة مشهدية لينة تسيل من أجساد راقصين وراقصات بدوا غالبا شبانا أقوياء ممتلئين بالحيوية والألق.

ما تودّ الصين أن تقوله للعالم وصل الى الأسماع، ليس لأنهم محترفون وتقنيون متمكنون، الأرجح أنهم يعلمون مسبقا بما تنطوي حضارتهم عليه من خير للبشرية، فقدموا رسالة للعالم عن الصين الراهنة بما تواجهه من إشكاليات داخلية وتحديات خارجية، وبدت صورة الصينيين بحسب ما قدموها شابة وحيوية تحمل منطقا آخر للقوة والجبروت غير الذي تقترحه هيمنة الغرب الأميركي على العالم؛ فالجندي المدجج بالسلاح هو في الوقت نفسه تاجر نفط ورجل أعمال من طراز القتلة. هكذا أمكن للصين أن تنزع عنها الصورة النمطية القديمة بالأبيض والأسود، التي كانت فيها مريضة بتضخم ذاتها وفقيرة بماويتها وأزهارها، والتي لم يُترك لها أن تتفتح.

ومن جاري العادة أن يكون الافتتاح الأوليمبي اختبارا إعلاميا، وهنا كانت الصين مرئية من العالم ومن الجهات كلها، حتى أن افتتاح دورة الألعاب الأولمبية هذه لم تكن سوى بوح صيني عما هو كامن من طاقة وحيوية في تلك البلاد، بما عليها من بشر وبما قدموا من منجز إنساني للحضارة عبر تاريخها الطويل. حقا إنه أمر يثير الغيرة لا الحسد.

اللعبة الصينية قد عادت.

الصين تعرض في الأولمبياد رؤيتها للعالم
 
21-Aug-2008
 
العدد 40