العدد 40 - اقليمي | ||||||||||||||
تحسين يقين القدس - قال لها أحد المستوطنين: غداً ستموتين يا حاجة، وسوف نستولي على أرضك، فلا أحد سيمنعنا وقتها! استطاعت الحاجة شكرية من بلدة النبي صموئيل قهر المستوطنين بحفاظها على أرضها، عن طريق فلاحتها وزراعتها. ورغم أنها وحيدة، استطاعت بإرادتها الوقوف أمام التوسع الاستيطاني الذي سطا على الكثير من أراضي بلدتها وبلدات بدو وبيت اكسا والجيب المجاورة. قاومت السيدة السبعينية بما أمكنها، ووقفت على أبواب المحاكم، وكان إصرارها على الحفاظ على ملكيتها مبعث احترام لدى الجميع، بمن فيهم العدو. تنتمي الحاجة شكرية الواقفة على أبواب القدس من جهة شمالها الغربي إلى «النبي صموئيل»، البلدة التي تعرضت لضروب من الترحيل القسري الذي ما زال يتهدد البقية الباقية من أهاليها، الذين لا يتجاوز عددهم الفعلي 2200 شخص. تقول الحاجة شكرية: بعد حرب 1967، نزح مَن نزح من أهالي النبي صموئيل تاركين وراءهم أملاكهم وبيوتهم، ثم تعرضت البلدة الصغيرة الآمنة لترحيل جديد العام 1971. بعد أقل من أربع سنوات، قامت جرافات الاحتلال بهدم جميع البيوت القريبة من مسجد ومقام النبي صموئيل، وهي في الحقيقة معظم البيوت، وساهم في ذلك أن عدداً من تلك البيوت كان أصحابها تركوها سنة 1967. جاءت سيارات عسكرية إسرائيلية في الليل، وبدأت بتشريد الناس من بيوتهم، فأخذ الأهالي ما استطاعوا من أمتعة ومتعلقات بيوتهم، وتقدمت الجرافات ومسحت البيوت كأنها لم تكن يوماً ما بيوتاً مزدهرة عامرة بأصحابها، أولئك الذين لاذوا بالمقام طلباً للحماية وسكنوا وحوله. جلس الأهالي بنسائهم وأطفالهم وشيوخهم ينظرون نحو البيوت بطابعها المعماري الخاص وهي تهدم أمام أعينهم، وما كان بالإمكان حماية القرية وسط التواجد العسكري المكثف. استمرت جرافات الاحتلال بالهدم طيلة الليل حتى عصر اليوم التالي. وكان المبرر الذي ساقوه لجريمتهم أن هناك تصدعاً في الأبنية القديمة.. تضحك الحاجة شكرية قائلة: «يعني هذا كله خوف أن تسقط البيوت علينا!». في اليوم التالي عصراً وصل ضابط عالي الرتبة، وحين رأى القرويين هنا، تحدث في «المخشير» (اللاسلكي) وقال بالعبرية، وهو يحسب أنه ليس هناك أحد يعرف اللغة العبرية: «أوقفوا الهدم»، ثم غادر!. تقول الحاجة شكرية: «أقام الأهالي المتبقين في غرف صغيرة ضيقة جداً، حيث لم يسمح الحكم العسكري بالبناء، ولم يمنحوا أحداً رخصة بناء، فماذا ستفعل عائلة مكونة من أطفال صغار بعد عشرين أو ثلاثين عاماً؟ أين سيقيم المتزوجون وعائلاتهم؟ انظر، كما ترى، في البيت الواحد تجتمع عائلتان وثلاث عائلات، هل هذا عدل؟». تتابع بحسرة: «قال لي أحد المستوطنين إنني سأموت لأنني كبيرة في السن، وإن المستوطنين سيستولون على الأراضي بسهولة، انظر إلى هذه الوقاحة، هل بعدها وقاحة؟». «وليش ما يكونوا وقحين؟ .. هو فيه حد واقف قدّامهم؟» . منذ سنوات، يحظر على أبناء البلدة بناء سور حول البيت، ولا حتى إضافة غرفة واحدة، ماذا سنعمل! «الأرض واسعة، وحلوة للسكن، لكنها محرمة علينا. انظر لمستوطنة شمويل، سرقوا منا اسم البلد شمويل، يعني صموئيل، سرقوا الأرض، يأتون باليهود من آخر الدنيا ليستوطنوا هنا، أما نحن أهل البلد وأصحاب الأرض فلا يجوز لنا العيش». «من الطبيعي أن يهجر قسم من الأهالي البلدة للعيش في القرى المجاورة، أو حتى الرحيل إلى الخارج، أما نحن فنحاول البقاء، وإن شاء الله سوف نواصل بقاءنا». تضحك الحاجة شكرية: «يعني لما أموت أنا، بتروح الأرض، فشروا! فيه غيري ألف شكرية وشكري..». في غرفتين صغيرتين تعيش الحاجة شكرية، تطل من هناك فترى أمامها القدس، ليست بعيدة سوى كيلو مترات معدودات. «كنا نذهب إلى القدس زمان مشياً، الله يجازي اللي كان السبب». مصدر دخل الحاجة شكرية محدود، فالأرض الزراعية بحاجة لسواعد قوية تعمرها، وهي وحيدة ليس بوسعها تسويق منتجاتها. تحمل الحاجة «الصمويلية» حبات تينها، «المشطّــــب»، دلالة النضـــوج، وتجلس أمام مسجــــد ومقام النبي صموئيل، لعل زوار المكان والسواح وغيرهم يشترون منها. لكن الزوار هنا قليلون، فأكثر المرتادين إلى المقام والمسجد من اليهود. تقول الحاجة شكرية: «سيطر اليهود على البلد بالتدريج. الجزء السفلي من المسجد جعله اليهود كنيساً، نحن في المسجد نصلي وهم تحتنا يصلون، ويأتون إلى هنا بكثرة». أما المسجد -تضيف الحاجة شكرية- فلا تسمح سلطات الاحتلال للمسلمين من خارج القرية بالدخول إليه، «فما معنى ذلك وأهل البلد بينعدّوا على الأصابع..؟». قبل سنوات كان قرويون يأتون من قرى مجاورة لأداء صلاة الجمعة، لكنهم مُنعوا من ذلك. مقام النبي صموئيل قديم، تأسس زمن القائد صلاح الدين الأيوبي، وجدده القادة الذين جاءوا بعده. وهو بناء جميل. المحزن في ظل اقتصار الزيارة على المستوطنين اليهود، أن الحاجة شكرية لا تجد لها زبائن تبيع لهم تينها إلا لهم. حياة الأهالي هناك على رأس الجبل الأعلى في منطقة القدس في أدنى مستويات المعيشة: اكتظاظ سكاني في منازل ضيقة لا يسمح بتطويرها. حياة الحاجة شكرية الواقفة أمام بوابة شمالي غرب القدس بائسة، لكنها تعد بأن تظل نداً للمستوطنين، وأنهم لن يهنأوا بسرقة الأرض وهي على قيد الحياة. في إحدى الليالي تسلل مخربون إلى أرض شكرية الصمويلية، وعاثوا فساداً، خربوا الأسلاك الشائكة، وخربوا الأشجار، فمن هو عدو هذه الحاجّة؟. يقول المواطنون إن عملاء مندسّين قاموا بتخريب الأسلاك الشائكة، حتى تتوقف الحاجة شكرية عن المقاومة، فهل تملك الحاجة وهي في السبعينيات من العمر أن تقاوم وحدها؟. ستصعد الحاجة شكرية درجات المسجد والمقام. مع كل صعود، ستذكر حياة الناس هنا قبل الاحتلال العام 1967، تتساءل: أين ذهبوا؟ هل يذكرون قريتهم؟ تستعيد حياتها حين كانت قادرة على العمل، وتتذكر والديها وإخوتها الذين تغربوا وسافروا. تتذكر الغزاة الذين مروا من هنا، ومواكب الذين قدموا لدحر الغزاة من بينهم صلاح الدين.. تصعد بقية الدرجات، لتصلي وتتأمل، هناك في أعلى الجبل. لم تقل الحاجة شكرية أن للجبل اسماً آخر هو «جبل الدموع»، وسمّي كذلك، لأن الحجاج القادمين من أوروبا كانوا يأتون إلى ميناء يافا، ثم يقصدون القدس، وحين كانوا يخفقون في دخولها بسبب الحرب كانوا يبكون هناك، عند جبل النبي صموئيل. لم تقل الحاجة شكرية إن صموئيل، وهو أحد الأنبياء، خاطبه الله حسب ما جاء في العهد القديم، وناداه، فلبى الدعاء وقال: تكلم يا رب فإنني أسمعك.. تكلمت الحاجة شكرية، لكن لا أحد يسمعها، فمَن لها ولأرضها وللقدس ولبوابتها الشمالية؟ |
|
|||||||||||||