العدد 6 - ثقافي | ||||||||||||||
لم يحظَ المصطلح المسرحي (الدراماتورجية)، اليوناني الأصل، بأي مرادف عربي دقيق حتى الآن، شأنه شأن العديد من المصطلحات الأجنبية الإجرائية في الفنون البصرية والسمعية والمشهدية مثل: الكوريغرافيا، الغروتسك، الماكياج، البارودي، السيناريو، الفودفيل، الكواليس، السينوغرافيا... إلخ. إن كلمة (الدراماتورجية)، حسب المعجم المسرحي، لها مجال دلالي واسع لأنها تدل على وظائف متعددة ظهرت تباعاً مع تطور المسرح. في القرن السابع عشر كان مؤلف النص المسرحي في أوروبا يسمّى (الدراماتورج)، ومصطلح (الدراماتورجية) يعني فن تأليف المسرحيات. وتطور المعنى فيما بعد، مع انتقال مركز الثقل تدريجياً من النص إلى العرض، ومن مؤلف النص إلى معد العرض. وتمثّل التجربة الألمانية في المسرح أول انفتاح في معنى الكلمة على مدلولات جديدة تتخطى عملية الكتابة لتشمل العمل المسرحي بمجمله بما فيه عمل الممثل وشكل العرض. وصار مصطلح (الدراماتورجية) يغطي مجال المسرح كله بما فيه كتابة النص، وتحضير العرض، ودراسة تاريخ المسرح والنقد. تعرضت وظيفة (الدراماتورج) في المسرح العربي، خلال العقدين الماضيين، إلى كثير من التشويه والتسطيح، إذ بدأنا نلاحظ ظهور اسم (الدراماتورج) مع المخرج في بعض العروض المسرحية، من دون أن يكون له جهد (دراماتورجي) حقيقي في التجربة، إما بسبب عدم إدراك (الدراماتورج) لوظيفته، أو بسبب دكتاتورية المخرج، أو لجهل الطرفين العلاقة بين عمل المخرج، وعمل (الدراماتورج). وقد خضت شخصياً تجربتين (دراماتورجيتين) مع مخرجين اثنين من المخرجين العرب هما: العراقي عزيز خيون في مسرحية (يا أهل السطوح)، والأردني غنام غنام في مسرحية (كأنك يا بو زيد....)، وأعترف بأنني نجحت نجاحاً محدوداً في التجربة الأولى، وفشلت في التجربة الثانية، على الرغم من تقديم المسرحيتين في مهرجانين دوليين، وظهور اسمي إلى جانب المخرجين خيون وغنام في الوثائق المنشورة. وفي الواقع أن (الدراماتورجية)، بوصفها ممارسةً ذهنيةً وعمليةً، سادت في العملية المسرحية، وأصبحت جزءاً من العمل الإخراجي حتى في حال غياب (الدراماتورج)، فبات الكثير من المخرجين يقومون وحدهم بنوع من القراءة (الدراماتورجية) من أجل التحضير للعرض، هذه القراءة يمكن أن نطلق عليها عملية (مسرَحَة) أو (تمسرح)، ومن بين هؤلاء المخرجين، في المسرح العربي، تمثيلاً لا حصراً، صلاح القصب، وقاسم محمد، وكاظم النصار (العراق)، والفاضل الجعايبي، ومحمد إدريس (تونس)، وسليمان البسام (الكويت)، وحكيم حرب (الأردن). لقد اتخذ هؤلاء المخرجون الخيار (الدراماتورجي) منهجاً في إبداعهم المسرحي، على الرغم من اختلافهم في التجربة المسرحية منحى وأسلوباً، فالقصب اجتهد (مخرجاً دراماتورجاً) طوال ربع قرن من خلال مسرح الصورة ونصوص عالمية، أغلبها كلاسيكي، معتمداً قراءةً تأويليةً تختزل النص، وتعصف به أحياناً. واجتهد قاسم محمد في إطار التراث والثقافة الشعبية، إلى جانب نصوص شرقية وعربية، شاحناً إياها بدلالات إنسانية وقيم نبيلة مطلقة، من خلال صوغ مسرحي يقوم على الطقس الشعبي، والاحتفال، واللعب، والحكي، وغير ذلك من أساليب التعبير المحلي. وتميز الجعايبي وإدريس بإضفاء جمالية رفيعة على تجاربهما التي تنهل من الواقع موضوعات في غاية الحساسية والجرأة، وأحياناً المسكوت عنها، أو غير المفكُّر فيها، بسبب هامشيتها من وجهة نظر المبدعين التقليديين. ويتصدر هذه التجارب عادةً أداء أخاذ وغير مألوف للممثلين من خلال حرفية عالية المستوى في استثمار طاقاتهم الجسدية والصوتية، إضافة إلى التشكيلات البصرية المبهرة التي تسحر العين وتثقفها. واستخدم البسام “مبضعه” الدراماتورجي في تشريح أشهر تراجيديات شكسبير (هاملت، وماكبث)، وحوّل شخصياتها الكلاسيكية إلى شخصيات منبوذة معاصرة (الإرهابي، الطاغية، وتاجر الحروب)، متخذاً اسلوب الإسقاط السياسي من خلال ربط أحداث المسرحيتين بقضايا الساعة في الواقع العربي والدولي بما تحمله من سلبيات وآلام ومحن، وإثارة تساؤلات حول الكثير من الأزمات والصراعات الإنسانية والسياسية.. وقد وصفت صحف بريطانية أحد عروضه (وهو مؤتمر هاملت) بأنه أجرأ عمل سياسي يفضح الاستبداد والحروب، وينتقد الدول المتسلطة المتاجرة بمآسي الشعوب. وكان عرضه الثاني (ماكبث 60 واط) قطعةً فنيةً هجينةً تقع في منتصف الطريق بين السرد الروائي والرسم التجريدي، بين فن العرض الحيّ والمسرح، فضلاً عن كونه لعبةً مثيرةً عمد البسام من خلالها إلى جعل الشخصيات في وضع تنسى فيه معظم حوارات المسرحية، ولكنها تستمر في إدارة الأفعال الدرامية بنوع من التحريف المتكرر والمستمر. وبرز الجهد الدراماتورجي في تجارب المخرج حكيم حرب (المتمردة والأراجوز، كاليغولا، سيمفونية الدم ماكبث، ومأساة المهلهل) التي ركز فيها على البعد الوجودي- الفانتازي للتراجيديا العالمية والمحلية، جاعلاً أبطالها المستبدين يندفعون إلى الأمام، دون تروٍّ، لتحدي نواميس الطبيعة والقوى الميتافيزيقية، وملاقاة أقدارهم المأساوية بلغة مشهدية بصرية شديدة الإيحاء، تتداخل فيها مناخات وأطر تاريخية وحديثة ذات نزوع غرائبي يجمع الوهمي بالواقعي، والمعقول باللا معقول، محفزاً ذهن المتلقي على نوع من التأويل الحر، وفك الاشتباك بين البنى المتعارضة في الفعل الدرامي. *ناقد عراقي مقيم في الأردن |
|
|||||||||||||