العدد 40 - أردني | ||||||||||||||
محمود الريماوي وحسين أبو رمّان تتسم رؤى الملك عبد الله الثاني بنزعة إصلاحية واضحة ثاقبة، اتخذ الملك عدداً من المبادرات الداعمة لها مثل «الأقاليم التنموية»، «الأجندة الوطنية»، و«كلنا الأردن». في كل مرة توضع حصيلة الجهد الجماعي في عهدة الحكومة القائمة التي تشيد بما يحال إليها، وتنفذ أقل القليل من الرؤى والتوصيات، بخاصة بما يتعلق بملف الإصلاح السياسي والإعلامي. ومنذ تسلم الملك سلطاته الدستورية قبل نحو تسع سنوات، شكلت كتب التكليف الملكية للحكومات مرجعية يعتد بها، في النظر إلى مسار السلطة التنفيذية وتقييم أدائها. عكست كتب التكليف منذ غرة العهد رؤية الملك الإصلاحية. لقد بدا الملك الجديد آنذاك الذي لم يمض سوى أيام في ولاية العهد وأمضى سنوات تحت السلاح، بدا وما زال ذاتاً وطنية عصرية مفعمة بالطموح والعزيمة لبناء أردن مزدهر لجميع أبنائه وبناته. غير أن مضامين كتب التكليف قلما تجد طريقها للتنفيذ. لقد عبّر الملك في وقت مبكر من عهده عن التطلع إلى حكومات منسجمة دينامية ومستقرة، لا تتبدل بين سنة وأخرى. الإخفاق في التقاط الرؤى الملكية أملى تغيير الحكومات خلافاً للطموح، وحمل على تكرار مضامين كتب التكليف من حكومة إلى أخرى، ولو قيض لهذه المضامين أن تدخل حيز التطبيق، لما نشأت الحاجة للتذكير مجدداً بهذه التوجهات. نتائج ذلك، تتمثل في نشوء حالة من التذمر والضيق على مستوى الشارع بعد مضي أشهر على تشكيل كل حكومة، يجري احتواء هذه الحالة من الحكومات، بسياسة الاسترضاء هنا وهناك. النائب المخضرم بسام حدادين يحدد القضية الأساسية في كون «الإصلاح يحتاج إلى إصلاحيين ذوي قناعة قولاً وعملاً بالفكر الإصلاحي الذي يتبناه جلالة الملك ويدعو له». يوضح حدادين أن التيار المحافظ يعمل لبقاء الوضع القائم على حاله، يتمترس في العديد من المواقع التنفيذية والتشريعة، والنتيجة أن الأفكار التقدمية والإصلاحية لا تجد من يترجمها «لعدم توافر رابط الإصلاح في أجهزة الدولة، وغياب الإسناد من البرلمان، معقل التيار المحافظ». يذكر مصدر قريب من دائرة صنع القرار، أن الملك الراحل الحسين كان كثيراً ما يشكو لدائرته القريبة في الديوان الملكي، من عدم تقيد الحكومات بكتب التكليف التي تراها بعض الأوساط النافذة في السلطة التنفيذية «مراسم»، لا محددات يضعها رأس الدولة تلزم حكوماته. رئاسة الديوان الملكي ظلت تقوم بدور همزة الوصل بين رأس الدولة والحكومة، والمعبّر عن التوجهات الملكية. ليس هناك في الدستور ما يفيد بغير ذلك. انشغال الراحل الحسين بالوضع في الإقليم في ظروف الحروب العربية الباردة، وتمكين الدولة من البقاء وسط أنواء الإقليم، علاوة على سريان الأحكام العرفية، لم تتح تغيير ذلك الوضع نحو الأفضل. ورث الملك عبدالله الثاني هذا الإرث، ويعمل ما وسعه الجهد على تغييره، متحملاً بعض أعباء السلطة التنفيذية، عبر القيام بجولات شبه دورية وإطلاق عدد من المشاريع التنموية بعد العكوف على دراستها، ومخاطبة المواطنين والتحاور معهم بصورة مباشرة، وهو ما يعزف عنه بعض المسؤولين المحليين. علاوة على إنجاز الأجندة الوطنية التي أعدتها كفاءات وطنية مميزة. كان وما زال يُفترض أن تشكل الأجندة مرشداً وخريطة طريق تترجم رؤى الملك وتجد طريقها إلى حيز التنفيذ. فإذا بها تتحول إلى مجرد أرشيف. في المشهد العام، تتلكأ إرادة الإصلاح في دوائر الحكم التي لم تعتنِ بتوسيع قاعدتها الاجتماعية والسياسية نحو قوى التغيير والحداثة في المجتمع. هذه القوى لم تعطَ فرصة المشاركة في صناعة القرار السياسي، ويتواصل وضعُ العراقيل أمامها، ما يبقيها بعيدة عن المشاركة. «تغيب عن البرلمان أية قوى اجتماعية أو سياسية تتبنى أفكار الملك الإصلاحية في الجوهر وليس بالطريقة المموهة. فالبرلمان يتشكل من غالبية ساحقة من تيار البيروقراطية السياسي وتحالفاته العشائرية والزعاماتية»، بحسب حدادين. مجلس الأعيان يفترض أن يسد الثغرات ويحمل بصورة أوضح رؤى الإصلاح. رسّخ مجلس النواب صورته كعقبة أمام الفكر والتطلعات الإصلاحية ببعديها الاجتماعي والسياسي، بالموقف من قضايا الحريات وقوانين الأحزاب والجمعيات والاجتماعات وقضايا الأحوال الشخصية وجرائم الشرف وغيرها. ظل المجلس من أنصار نظام الصوت الواحد، بالصيغة الهجينة التي جاء عليها في قوانين الانتخاب «المؤقتة» في العام 1993، ثم في العام 2001. رغم ذلك، يرى حدادين دوراً مهماً لتيار البيروقراطية السياسي في إدارة الدولة، لكن مصلحة البلاد وتقدمها يتطلبان تجديد دم هذه الشريحة الاجتماعية، لأن «من يتبوأون الصدارة فيها، هم من أبرز رموز المحافظين. وأثبتت التجارب أنهم غير مدركين لأهمية التعايش مع الشرائح الصاعدة والجديدة، حتى إن اللقاءات التي تنظم بين الملك والفعاليات السياسية والاجتماعية، يغيَّب عنها ممثلو الاتجاهات المؤمنة برؤى الملك الإصلاحية». من المفارقات في ظل هذا الوضع أن بعض رؤساء الحكومات، يشكون من عقبات تَحُول دون أداء مهماتهم، فيما منطق الأشياء وطبيعة الأمور، أن يقوموا هم بحكم مسؤولياتهم، بمعالجة مصادر الخلل وإيجاد حلول لها، كالحاجة لوقف استشراء البيروقراطية، ورفع سوية اداء القطاع العام، والتوافق الفعلي في ظل الدستور على آليات العمل بين المؤسسات بصورة منسجمة ومتكاملة ومنتجة. التطورات خلال العقدين الماضيين، لم تقلص نفوذ الشرائح البيروقراطية في دوائر الحكم، بل عززت نفوذها من خلال مختلف أشكال التزاوج مع رأس المال، عبر الأشخاص أنفسهم أو العائلات. فالنخب المالية قادرة على اختراق السلطتين التنفيذية والتشريعية واحتلال مواقع متقدمة فيهما. فرصة المجتمع للإمساك بحقه الدستوري بأن يكون مصدر السلطات، هو بالتمتع بقانون انتخاب ديمقراطي، يحمل إلى السلطة التشريعية مَن هُم أهلٌ لتمثيله ورعاية مصالحه وترجمة رؤى رأس الدولة. هذا يفسر المقاومة الشرسة التي لقيتها دعوات تطوير قانون الانتخاب على امتداد الحقبة الماضية. ولأن القضية تتعلق بمستقبل البلاد، يتعين التوافق على قانون انتخاب جديد، وهو ما نجحت لجنة الأجندة الوطنية في قطع ثلاثة أرباع المسافة نحوه، بمقترحها اعتماد نظام انتخاب مختلط يجمع ما بين الانتخاب الفردي (لمرشح دائرة)، والانتخاب بالقائمة النسبية (لقائمة حزبية). الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية فارس بريزات، يفسر ضعف اهتمام الحكومات بتحقيق إصلاحات سياسية، بغياب مطلبية متكاملة للديمقراطية، بسبب ضعف القوى الاجتماعية الضاغظة في هذا الاتجاه. «لم تنشأ حركة اجتماعية اقتصادية في المملكة تعبّر عن نفسها سياسياً بشكل مستقل عن مؤسسات الدولة». يستشهد بريزات على استخلاصه بأن أكثر من 50 بالمئة من القوى العاملة تعمل في مؤسسات الدولة من أجهزة حكومية ومؤسسات عامة وجامعات، نحو أكثر من نصف مليون موظف، يعيلون زهاء ثلاثة ملايين مواطن، وترتبط مصالح هؤلاء المباشرة بالدولة. لذا يفضّلون بقاء الأوضاع العامة على ما هي عليه، فيضمنون ما يعدّونها مصالحهم من خلالها. تغيير العلاقات وموازين القوى بين مكونات الدولة والمجتمع، يعدّ أمراً مربكاً لهذه الفئة الاجتماعية، إذ يضعها في حالة من عدم اليقين. أما بعض القوى المستنيرة، فمنها فئات تعتمد أساساً في حياتها على دخول وافدة من الخارج. الحراك السياسي لا يعني الكثير لهذه الفئة ما دام أن دخول أفرادها لا تعتمد على الحراك الداخلي. استمرار الوضع مقلق. تباطؤ الإصلاح يعطّل قدرة البلاد على العمل بجماع طاقاتها، وفي زمن يمضي سريعاً نحو المستقبل، فإن الآثار السلبية لتعطيل الطاقات الوطنية تتضاعف.. مع التفسيرات الجدّية لهذا الاستعصاء، لا مبرر للقبول باستمرار هذا الوضع، في ظل برلمان بجناحيه وأياً كانت الملاحظات عليه، وصحافة تتمتع بهامش من الحرية ومنابر منتشرة. لعل القصور يكمن في المجتمع السياسي أو في النخب السياسية التي تتلمس مصالح فردية وفئوية وتنهمك في التنافس الفردي بين مكوناتها، حتى لو بقي كل شيء على حاله، بدلاً من الإضاءة على أوْجُه القصور وتحديد المخارج والحلول بما ينسجم مع الرؤى الملكية وحاجات القوى الحية وتطلعاتها، والطموح لأردن عصري ودولة مؤسسات. وهو ما يراه بريزات على جانب من التعقيد. «ليست هناك بنى اقتصادية تبحث عن تمثيل لها». تركيبة الإخوان المسلمين مثلاً لا تعكس بنية اقتصادية متجانسة نسبياً. التجانس لديهم قائم في الموقف السياسي، فـ«الإخوان» ليبراليون اقتصادياً، محافظون اجتماعياً وبأفق أيديولوجي سلفي، ما يُضعف دورهم في الضغط باتجاه إصلاحات ديمقراطية. العشيرة تشكل وحدة واحدة من حيث رابطة الدم، لكنها ليست ذات بنية اقتصادية اجتماعية منسجمة ذاتياً، وهذا يبدد -وفي الأقل يكبح- أي دور لبعض أفرادها في الإصلاح. من الشطط والنكوص عدّ هذه الوحدة الاجتماعية مؤسسة سياسية. الدولة تتبنى خطاباً إصلاحياً ولم تقم بجهد إصلاحي ملموس يخدم مصداقيتها. بريزات الذي يتولى مهمة نائب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية، يرى أن على النخب الاستجابة لذاتها، فخطابها 99 بالمئة منه خطاب إصلاحي، لكنها لا تنفذ خطوات عملية لتطبيقه، وطريقها إلى التطبيق دعم إنجاز قانون انتخاب جديد يشتمل على تمثيل نسبي للأحزاب. |
|
|||||||||||||