العدد 39 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي
لطاهر كنعان (73 عاماً) سمةُ طبيبٍ شديد الإخلاص لعمله ولطيفٍ على مرضاه، وله هيئة مفكر شكّاك شاب ناجح يتقدم ببطء وخفر إلى أول سني الكهولة. هذا هو الانطباع الذي يتركه الوزير السابق والخبير الاقتصادي لدى من يلتقيه. ينتسب لعائلة نابلسية عريقة وممتدة عُرفت بالصناعة والتجارة والعمل العام، واشتهرت عائلته الصغيرة، ليس فقط بصناعة الصابون ماركة "كنعان"، بل بتمثيل والده المرحوم حمدي كنعان لأهل مدينته عضواً في المجلس البلدي ورئيساً منتخباً للبلدية. الابن طاهر اتجه للتحصيل العالي في التعليم، رغم ميوله السياسية آنذاك -أواسط الخمسينيات- باتجاه حزب البعث العربي الاشتراكي. وكان الشاب ناشطاً في الحزب أثناء دراسته في كلية النجاح الوطنية، وواصل انتماءه الحزبي في الجامعة الأميركية ببيروت، وكان يقيم علاقات تعاون وثقة مع المرحوم عبد الحميد شرف بوصف الأخير ممثلاً للتنظيم الطلابي لحركة القوميين العرب؛ فيما كان طاهر ممثلاً للتنظيم البعثي لطلبة الجامعة، وذلك رغم الخلافات بين التنظيمين، فالبعث كان يؤمن بالاشتراكية؛ فيما القوميون العرب آنذاك لم يكونوا منفتحين عليها. مع تخرج طاهر في الجامعة، ومع الانشقاقات الأولى التي تعرض لها الحزب على خلفية الموقف من الوحدة بين مصر وسورية العام 1958، ثم الانفصال العام 1961، بدأ طاهر كنعان انسحابه التنظيمي من الحزب. "لكني ما زلت مؤمناً بعقيدته"، يقول لمحدثه بغير تردد. علماً أن عقيدة "البعث" من المرونة، بحيث تتسع لكل من يمتلك رؤى قومية فضفاضة ويصرف النظر عن الاصطفافات الفكرية والسياسية والفعلية. في قناعته أن المعضلات السياسية والاقتصادية التي تعانيها الدول العربية لن تجد حلاً لها على المستوى الاستراتيجي، إلا عبر صيغ اتحادية أو وحدوية أو تكاملية على الأقل. في مقالة له لم تُنشر بعد، يتحدث عن "تراجع العروبة كهوية قومية قادرة على شد العالم العربي من شتى أقطاره ضمن منظومة جيوسياسية متضامنة لحماية مصالحها وأمنها المشترك ضد التمزق والبعثرة التي ما برحت قوى الهيمنة العالمية تغذّيها منذ القرن التاسع عشر"، وأن ما يمنع نشوء هذه الصيغ أن النخب العربية الحاكمة، باتت تجد مصلحتها الاقتصادية ودوام استمرار حكمها عبر إقامة أوثق علاقة مع عاصمة أجنبية، لا ببناء "دولة مواطنين". بعد تخرجه في جامعة كامبردج (دكتوراة فلسفة من دائرة العلوم الاقتصادية والسياسية) عمل طاهر كنعان، مدفوعاً ربما بحلمه الوحدوي وبقناعته أن "بلاد العرب أوطاني"، في السودان والمغرب والعراق والكويت، قبل العودة إلى عمّان في منتصف الثمانينيات. وبحكم خبرته المشهودة في العمل مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في الكويت، وخبرته في العمل مع برامج التنمية في الأمم المتحدة، تم استدعاؤه من الملك الراحل الحسين للعمل وزيراً لشؤون الأرض المحتلة (قبل فك الارتباط)، ثم عُين بعد عام وزيراً للتخطيط في حكومة زيد الرفاعي. شهد طاهر كنعان الأزمةَ الاقتصادية والسياسية بعد عامين، ولاحظ من موقعه استمرار الإنفاق الحكومي الحالي مع بدء المعونات العربية (الخليجية) في التراجع، وبدء تفاقم العجز وتقلص احتياطيات البنك المركزي. يضع طاهر كنعان على نفسه، بحكم موقعه، جزءاً من المسؤولية، ومن باب التضامن الوزاري. لكنه يشير إلى أن دعواته للتصحيح لم تلق آذاناً صاغية، وعُدَّت أحياناً من قبيل التدخل في شؤون وزارات أخرى، مثل وزارة المالية آنذاك. في رأيه أنه كان يمكن الحد من التدهور، والحفاظ على سعر أعلى للدينار أمام الدولار، رغم أن سعر الدينار آنذاك (نحو ثلاثة دولارات) كان أعلى من قيمته الحقيقية. ينظر طاهر كنعان إلى تلك الحقبة بهدوء دونما انفعال. ويرى أنه كان من الطبيعي أن "تُستقال" الحكومة آنذاك، وأن يتم الانتقال إلى تحول ديمقراطي ظل برأيه واعداً، إلى أن جاء العمل بقانون الصوت الواحد، الذي قاد إلى تعثر مديد، لا سبيل لمعالجته دون الرجوع عن هذا القانون. لا يعمل طاهر كنعان حالياً في السياسة رغم إدارته لـ"المركز الأردني لأبحاث وحوار السياسات" الذي نشأ قبل أربع سنوات، وهو مركز يعنى بالجوانب التنموية والاقتصادية، ويتبع للمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا. يُذكر في هذا المجال أن طاهر كنعان يستخدم "اللاب توب" برشاقة واحتراف، وكان سباقاً في إدخال الحوسبة وتعميمها في دوائر الدولة أواخر الثمانينيات، وكان له قبل ذلك فضل تعميمها في دولة الكويت في مطلع الثمانينيات، حتى إنه عمل مديراً لبرنامج حوسبة أعمال الصندوق العربي وأسس دائرة المعلوماتية فيه. غير أن لطاهر كنعان، نائبِ رئيس الوزراء والعينِ السابق، رؤاه السياسية الخاصة، ومنها قناعته بأهمية تمكين الحكومات من أداء مهامها الدستورية كصاحبة ولاية عامة، وتجنب الازدواجية في المهام لدى مراكز الدولة العليا. يتابع طاهر كنعان ما يجري في العالم العربي والعالم عن كثب، وتستحوذ على إعجابه شخصية "السيد حسن نصر الله كرمز للممانعة الوطنية العربية"، وينظر بإعجاب لنيلسون مانديلا رائد الحرية في جنوب إفريقيا، ويعجبه بعض اليهود الأحرار مثل نعوم تشومسكي وألان بايبه مؤلف كتاب "التطهير العرقي". يقرأ في الشعر والأدب والفلسفة (تستوقفه قصيدة هجائية جديدة للشاعر العامي المصري أحمد فؤاد نجم يجري تداولها عبر شبكة الإنترنت)، إلى جانب قراءاته في حقل الاقتصاد والتنمية. لا تَحُول قتامة الأحوال العربية دون احتفاظه بابتسامة مشرقة، حيية، مع قدر من التفاؤل بـ"إرادة الأمة على تجاوز المحن". يؤمن أن العودة إلى تعريب الصراع مع الصهيونية، تمثل الأفق الاستراتيجي لانتزاع الحقوق وانتصار عدالة القضية الفلسطينية. لكن من دون توقف طويل من جانبه عند تعاظم المصالح القطرية، التي تجعل التعريب في الظرف الحالي في بعض الحالات، وصفة للتدخلات الإقليمية ومدّ النفوذ لا لوجه القضية. يتساءل في ختام اللقاء به: "لماذا لا تقوم مبادرات عربية لفك الحصار عن قطاع غزة، وعدم تحويل الخلاف المفهوم مع حركة حماس إلى عقاب جماعي للشعب المحاصَر؟". |
|
|||||||||||||