العدد 39 - كتاب | ||||||||||||||
"عِـمِـي مساء، واتركيني الآن كي أخلو إلى الموت و..نفسي" محمود درويش دأب ابن قرية البروة الفلسطينية على محاورة الموت: مداعبته والهزء به وتحدّيه والاعتراف بسلطانه. وواصل في الآن نفسه احتفاله بالحياة: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. بين هذين الحدين، وفي هذا البرزخ، عاش الشاعر العقد الأخير من حياته في عمّان، وكتب قصائده ونصوصه، وخاض تأملاته وحيداً في شقته النظيفة. بغيابه يفقد محبّوه الكثُر سبباً من أسباب الاحتفال بالحياة، على خلاف منطوق قصيدته الشهيرة المحكمة. لقد أشاع الإحساسَ القوي بالجمال عبر مئات النصوص الخارقة: جمال الوطن، وأرض البشر، والطبيعة، وعموم الكائنات. بغيابه ينطفئ مصدر للإشعاع، ويبدو الموت بارداً: قاتل يؤدي مهمته ببرود مطلق واحتراف تام، يتربص بسائر الكائنات وينتقي ضحاياه بالقرعة السرية، ويفاجئ الأحياء في كل مرة يضرب فيها ضربته. "لقد فعلها.. وقد يمنعني من الخلوّ إلى نفسي كما أحب". محمود الساخر بوسعه أن يقولها الآن في غيبوبته الوردية قبل العودة إلى تراب أحمر. لن يتيسر لأحد من أصدقائه سماعه يسخر من موته. سوف يُحرمون من تلك المتعة. ذات مرة في استذكار رحيل جوزيف سماحة سمع درويش من كاتب هذه السطور امتداحاً للموتة الهانئة التي غاب فيها سماحة سادراً في نومه. فعقب درويش بأنها ميتة لا بأس بها "إذا كان الموت لا بدّ منه". يبدو أنه لا بد منه يا صديقي. فيعود المرء القهقرى من حيث أتى. وأنت في غيابك الطارئ تعود وقد أضناك السفر، وجمال الكوكب، وكائناته إلى الموطن الأول للجمال، وقد تلقت الأم حورية منذ أمد طويل اعتذارك المسبق، إذا ما عدتَ إلى حضنها "أخجل من دمع أمي". سوف تزغرد لك، فأنت عريسها، الابن العريس الدائم. نحن الأحياء حتى تاريخه، نخجل من البشاعة المقيمة: بشاعة الغزاة والطغاة، بشاعة الجوع والذعر، وركاكة مناهضة القتلة: "عدوي صامد في النصر، وأنا صامد في الهزيمة"، كما عبّرتَ عن ذلك ساخراً في وقت مبكر. العزاء أن بعض قرائك -بعضهم فقط، وهم ليسوا قلة- سيحتفظون جيداً بوديعتك ويعقدون مواعيد دائمة للتبشير بالجمال ودعوة البشر لاكتشافه، خاصة ذلك الكامن في النفوس وتزدريه الكثرة الكاثرة.. تزدري هذا الكنز، من فرط انغماسها المسعور في التشاطر والنهش وطول الإقامة خارج مملكة البراءة. لك أن تسخر من الموت وتواصل الاختلاء بنفسك. نحن الموتى الأحياء نكاد نفقد قدرتنا على السخرية مما يسوؤنا، ومما لا يستحق حتى اللعنات. لك أن تكتب على هواك قصيدة لا تنتهي، لا يداهم تدفقها وسيولتها ما يعيقها. سوف نحرم من قراءتها. قد لا نكون نستحقها. قصائد درويش الجديدة منذ الآن ليست للنشر. ذلك سبب آخر لافتقادك. أما القصائد المنشورة بلا عدد تقريباً فتبقى مدرسة في الهواء الطلق يتعلم فيها من يشاء مقاومة الظلام، وكيف تشرق النفس بالحب. والكلمة الأخيرة يمقتها أمراء الظلام. |
|
|||||||||||||