العدد 39 - كتاب | ||||||||||||||
إن هي إلا جيلان أو ثلاثة، حتى يكون محمود درويش "السيرة" قد تناءى في الذاكرة الجمعية، ليبقى منه "النص" الشعري المتوهج الدائم المتجدد الذي يتخطى حدود الزمان والمكان. وفي تاريخنا الوطني والثقافي، كثيرة هي الأحصنة التي تركها فرسانها وحيدة، وكثيرة هي المراثي والجداريات التي أبدعها من يناجون الموت حباً في الحياة، وعشقاً لزهر اللوز، وحنيناً لخبز الأم. لكننا لم، وربما لن، نعرف أنبل من هذا الفارس، ولا أكرم من هذا الحصان. الراحل غسان كنفاني عرّفنا به وقدّمه، وشعراء آخرين في فلسطين المحتلة قبيل حزيران 1967. أما هو، فلم يعرِّفْ نفسه قط، بل لم يحاول مريدوه ودارسوه أن يصنفوه في هذه المدرسة أو تلك، أو يحشروه في إحدى خانات الحداثة، أو ما قبلها، أو ما بعدها. ذلك أنه، بتفرده وشموليته في آن، قد تجاوز أكثر المحددات على مدى أربعة عقود، مثلما تجاوز الفضاءات الجغرافية والسياسية التي امتدت من "البروة"، مرورا بدنيا العرب، ثم العالم بأسره، ليعود، مثلما أوصى، إلى "متر وخمسة وسبعين سنتمتراً" من التراب، ولكن، هذه المرة، في رام الله لا الجليل.
وربما كان من إنجازاته الباهرة الباقية أنه، منذ أواخر القرن المنصرم ومطالع هذا القرن، قد أعاد الاعتبار لجدوى الشعر وجدارته في الحياة العربية المعاصرة ، وارتاد، هو وقلة قليلة من الشعراء الحقيقيين بيننا، آفاقاً غنية رحيبة تثري الإحساس بالكرامة الإنسانية، وتٌجَذِّر الإيمان بالحرية والتحرر في أوساط الفلسطينيين والعرب أجمعين. كان محمود درويش، وسيظل، شاعراً بحجم فلسطين، ومبدعا بقدر ما تحمله الفجيعة والمقاومة والانكسار والنفي والانبعاث من الإبداع المتوهج، ومناضلاً كلماته أمضى من السيوف الكليلة التي يحملها أكثر مُدّعي النضال والشعر على حد سواء. وكان، وسيظل، يشع في غمرة الأكداس المكدسة من الغثاثة المسماة شعرا، وفي مستنقعات الرثاثة المدعوة نصوصاً أدبية إبداعية. كان حضوره الشعري، وسيظل، جماهيرياً وعميقاً ومدوياً ومتألقاً على الصعيد الفلسطيني والعربي عموما، وإنسانياً ومؤثراً على الصعيد العالمي. * شاعر وأكاديمي |
|
|||||||||||||