العدد 39 - ثقافي
 

زياد بركات*

الفاجعة كبيرة، فنحن لم نودع مجرد شاعر كبير، شكّل على مدار عقود أربعة رأس الرمح في الحداثة الشعرية العربية، كما أننا لم نودّع شاعر مقاومة عادياً، بل ودّعنا وخسرنا واحداً من بناة ومهندسي الروح الفلسطينية المعاصرة، لا بالمعنى الوطني بل الحضاري، فليس غيره مَنْ وضع التراجيديا الفلسطينية على خارطة العالم، وبه ومعه لم يعد الفلسطينيون مجرد شعب سقط سهواً في وَهدة الاحتلال والظلم والنسيان بل شعباً جديراً بالحياة وبموقع لائق بين الشعوب.

أصبحنا به ومعه في مستوى حضاري، وإبداعي يتقدم على الحالة السياسية المزرية التي نعيشها، وحرفاً حرفاً طرّز درويش صورة شعب يتقدم على جلاّده بل جلاديه، ويشكّل حالة إحراج لهم.

في هذا المعنى، كان درويش معادلاً موضوعياً لياسر عرفات، أعظم قادة الشعب الفلسطيني، فالأخير وضع الفلسطينيين على خارطة العالم، شعباً يقاوم النسيان بلغة العالم، مع عرفات أصبح الفلسطينيون حالة عالمية، من مجلس الأمن إلى عواصم الغرب والشرق، كرّس عرفات الفلسطينيين حالة ضميرية عالمية انتمى إليها من درجنا على وصفهم بأحرار العالم، وهم كذلك حقاً.

عرفات ليس كسابقه من القادة، وكذلك محمود درويش، فقبله كان الشعر الفلسطيني محلياً يمتاح من نماذج عربية كلاسيكية ويقلّدها، ومعه تحول ليتقدم المشهد الإبداعي العربي حداثة وأسلوباً. وهو ما لم يستطعه عبدالكريم الكرمي، وإبراهيم طوقان وغيرهما، لقد ظلا أسيرين لنموذج عربي كلاسيكي قوي ومهيمن، بينما اندفع الشعر فلسطينياً على يدي درويش ليصبح طليعة ومرضاً أُصيب به العديدون لعدة عقود. بالتوازي، بنى درويش حجراً حجراً صورة الوطن لدى الفلسطيني قبل سواه، أحببنا بلادنا في شعره، وشعرنا بالفجيعة لفقدانه، لأنه قاله وغنّاه، كما لم يفعل شاعر من قبل، ومنح الفلسطيني حالة من الزهو كان في أمس الحاجة إليها، وقد فقد داره ومداره وربما معنى وجوده، لقد منحنا الشاعر والمغني والفنان الكبير ما افتقدناه، وأكثر من ذلك دفعنا برقة ودأب يُحسد عليهما لنصبح شعباً، تماماً كما فعل عرفات لكن بلغته هو وبإبداعه هو الذي لا يُضاهى.

لقد أنجز بهذا ما لم يستطعه كبار مبدعي فلسطين، ولا من جاء بعدهم أو قبلهم أنجز ما فعله، فالرواية الفلسطينية الكبرى هي روايته، وحده درويش من قدّم هذه الرواية بعبقرية وقد أصبحت تراجيديا تتناسل وتتقابل وتحدق في نفسها وفي عيون العالم.

أكثر من ذلك، قام المغني والعاشق والشاعر الكبير، بما يُحسده عليه كثيرون، قام بمزج الخمر بالماء، السماوي بالأرضي، وذلك بأن ظل شاعراً يغني نفسه وتحولاتها، وبأن ظل فناناً تستحوذ عليه فكرة التجاوز وألا يقع في التكرار، وهذه ميزته شاعراً تقرأه في معزل عن قضيته أو علاقة شعره بالتحولات السياسية والاجتماعية لعصره.

بهذا المعنى لم يكن هوميروس الفلسطينيين، ولا «أوفيد» هم فقط بل ابنهم الضال وشاعرهم الفرد المتفرد طهراً وفجراً، غناءً وبكاءً، بوحاً وجهراً.

في هذا المعنى، الفاجعة كبيرة.. كبيرة حقاً.

* قاص ومحرر في قناة «الجزيرة»

فريد متفرد لا يشبه سواه
 
14-Aug-2008
 
العدد 39