العدد 39 - ثقافي
 

حسن حميد *

بلى،

ما أصعب أن يُصدَّق... هذا

وما أعجل هذا الإياب.

ما أقسى الريح التي حملت النبأ.

ما أوفى العيون بدمعها، والقلوب بجزعها.

وما أمَـرَّ هذا الحضور وقد طغى ثقل الغياب.

وما أنبل هذا الحزن الذي يموج بالناس، والأرواح، والقرى.. كما يموج القصب حيران حول معاشب الغدران.

فقد رحل سيد الحضور، والصحو، والمعنى.

رحل الكبير في القصيد، والبدو، والاحتفال.

رحل يوسُفنا، وبدت غيابة الجب، وبانت حسرة الأشقاء.

رحل الجميل.. فبكت نجمة الشعر، وارتجفت أودية عبقر، وهاجت طيور السماء.

وأرخت زيتونات الناصرة ظلالها كما ترخي العيون كحلها. وبكت البيوت اصطفافاً حول الدروب، وأغلقت الدور نوافذهاكي لا ترى فتاها الجميل على الأكف.. بعد وقفته المشتهاة وهجع الطيون، والخروب.. لكأنه شجر مثل الطيور يجري في منفسح الهواء.

وهذه الغيوم الدانيات، أكفّ الهمهمات والتمتمات.. يماشينه كي يظلَّ طيَّ نداه..

وهذه الدروب تغادر أحيازها.. يجري بعضها وراء بعضها، ويمدُّ بعضُها بعضَها بالأيدي. تنحدر نحو القرى، تخلخل البيوت.. كي تمشي بها أوبةُ الجميل قبل فوات الأوان.

وهذه الصبايا، يا درويش البلاد، مبللات الثياب، لا لأنهن غادرن الوادي المقدس تواً.. وإنما لأن الدمع أغرق منهن الباديات.

وهذه الدوالي، في مداخل البيوت تنحني على عناقيدها.. كي تراك.

أيها الراعي الجميل، أرجوك، قف في هدأتك، كي لا يصير الناس من حولك طيوراً. بدّدتها عتمة الليل.. كي لا تتداخل البيوت، والبساتين، والأنهار، والسواقي، والأشجار، والينابيع، والأسطر. كي لا يتماهى الناس، وقد هدّهم مشهد إيابك الأخير.

أيها الرائي فينا، أما كان بالمتاح قصيدة أخرى، ضحىً آخرُ، مشهديةٌ واحدة فقط ولو في مساء عجول.

أما كان بالمتاح تلويحة بالأصابع الوردية، أصابع الضوء، أما كان بمحبرة واحدة فقط تمدّنا بأسطرها الشعرية.. لتضيء لنا ما تبقى من نهاية الدرب الطويل. أما كان بالمتاح خطوة واحدة فقط.. كي تُنَحّي كلَّ هذا الشوك من دربنا الرسولي الذي مشاه سيد الجليل.. راعينا في السماء.

بلى،

ما أصعب أن يُصدَّق هذا

أن يدع الشعر صاحبه

وأن يفارق القلب خدينه

وأن يحيّد الزمن سيده،

وأن تراوغ الصهوات فارسها..

أنت، أيها العارف فينا، تدرك كم خبأت لهوات الصبايا.. من زغاريد لصباحات الانتصار، ومن زغاريد لقصيدة الانتصار.. الآن، وقد فتكَ بنا الغياب، نسأل مَنْ لخطبة النصر، من لفجره، من سيؤذن فينا، من سيقرع الأجراس، ومن سيقرأ نشيدنا البكر.. من سيقرع بوابات القرى.. بالقصائد الباقيات.

يا أيها الفتى الذهبي يا حفيد سيدنا الناصري.. كنتَ أوّلنا، والآن أوّلنا، وستظلّ أوّلنا وقصيدتك كانت كتابنا، وهي الآن كتابنا، وستظل كتابنا.

أيها الفتى البري كشجر الغار، كالكراكي.. كنتَ المحمود فينا، والآن أنت المحمود فينا، وستظل المحمود فينا.

طوبى للابتداء، وطوبى للدرب، وطوبى للكتاب، وطوبى للأوبة الأخيرة، وطوبى للحسرة الباقية.

* كاتب فلسطيني يقيم في دمشق

بكت نجمة الشعر وهاجت طيور
 
14-Aug-2008
 
العدد 39