العدد 39 - دولي | ||||||||||||||
معن البياري ليس من التنجيم في شيء، القول إن الانقلاب العسكري الذي أقدم عليه ضباط أمنيون وعسكريون نافذون في موريتانيا، قبل أيام يتّجه إلى النجاح التام، وإلى المضي في المسار الذي أعلن عنه قائد الانقلاب رئيس الحرس الرئاسي السابق، الجنرال محمد ولد عبد العزيز، ويبدأ بترتيب الأوضاع وتنوير الخارج، الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الإفريقي تحديدا، بأسباب خطوة «تصحيح الديمقراطية «في البلاد، على ما وصفها الجنرال الذي صار رئيس «مجلس الدولة الأعلى» بعد تشكيله عقب الإطاحة بالرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله واعتقاله، وهو المجلس الذي يضم 11عضواً، جميعهم من القيادات الأمنية والعسكرية. وينتهي المسار، في أسرع وقت، على ما يشدّد ولد عبد العزيز، بتنظيم انتخابات رئاسية «مضمونة الحرية والشفافية»، فتستأنِف موريتانيا المسار الديمقراطي، مع التعهد بحل كل مشكلات البلاد وإنجاز العدالة والمساواة، على ما ظلّ يوضح قائد الانقلاب، في تصريحات قال في إحداها أنه لا ينوي الترشح لمنصب الرئيس الجديد. البادي أن هذا المسار، المرتقبة انطلاقته بعد أسابيع، سوف تمضي موريتانيا فيه، من دون مطبات صعبة، فالمعارضة التي أعلنتها الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الإفريقي والأمانة العامة للأمم المتحدة لانقلاب السادس من آب الجاري في نواكشوط تبدو مبدئية تقليدية فقط، ومعهودةً في وقائع الانقلابات العسكرية، حتى إذا استقرّت الأوضاع للانقلابيين وأخذوا يطبخون التشريعات والقوانين، ويركّبون المؤسسات والهيئات التنفيذية في الدولة، يضطر أصحاب تلك المواقف، من الدول والهيئات الإقليمية والعالمية، إلى التعاطي مع «الأمر الواقع»، لا سيما إذا جرى الوصول إليه بالكيفية التي فاجأت بها موريتانيا محيطيها العربي والإفريقي، عقب انقلاب آب/أغسطس 2005 الذي أطاح بالرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، بين انقلابات ومحاولات انقلاب تجاوزت الأربعين منذ الاستقلال في 1960، وفي البال أن العقيد «آنذاك» محمد ولد عبد العزيز كان الرجل الأقوى والأبرز في ترتيبه، وهو ابن عم العقيد إعلي ولد محمد فال الذي أشرف في رئاسته «المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية» على تسريع فترة انتقاليّة، تمّت فيها انتخابات برلمانيّة نزيهة، وتشريع حياة حزبية نشطة، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وإجازة وجود حزب إسلامي، وتمت كذلك انتخابات رئاسيّة، وصل فيها سيدي ولد الشيخ عبد الله إلى الموقع الأول في السلطة بين 19 مرشحاً. يتمّ التذكير هنا بما شهدته موريتانيا من تحول مؤسساتي في السنوات الثلاث الماضية، للتأشير إلى أن لا شيء يمنع تكراره، أو على الأصح من إجراء تعديلات «جراحيّة» فيه، ولو على شكل انقلاب عسكري أبيض، حوفظ في أثنائه على البرلمان (الجمعيّة الوطنيّة) المنتخب، وعلى حريّة الأحزاب والتجمعات الأهليّة في التعبير عن آرائها، ولو بشأن الانقلاب الذي فاجأ الخارج، وبدا متوقّعاً في داخل موريتانيا، بعد أزمة سياسيّة محتقنة في الأسابيع الأخيرة. والبادي أنه ليس في وسع انتقادات الخارج مهما بلغت حدّتها «اللفظية»، أو بعض ضغوطه التي منها تعليق الولايات المتحدة مساعداتها غير الإنسانيّة لنواكشوط، وتعليق الاتحاد الإفريقي عضوية موريتانيا فيه إلى حين «عودة الديمقراطية»، البادي أنّه ليس في وسع هذه وتلك أن تنجح في إعادة الجيش وقوى الأمن إلى ثكناتها، وفي إعادة ولد الشيخ عبد الله إلى كرسيه، وإن خاطبت ابنته آمال مجلس الأمن الدولي لاسترجاع موقعه الشرعي، وتحدوها آمال بأن يستجيب الأخير، وهي التي كانت تعمل مستشارة إعلامية لوالدها (!). لا يعود عدم تمكّن الخارج من نجاحه في إعادة موريتانيا إلى مسارها الذي كان باعثاً على تقدير كثير وإعجاب أكثر، إلى ضعف الثقل المعنوي للخارج، ولا إلى قوة خاصّة لدى أعضاء «المجلس الأعلى للدولة» الأحد عشر في مواجهة تلك الضغوط والانتقادات التي كان لافتاً أن أيّاً من الدول العربية لم تبادر إلى شيء منها، وكان طريفاً أن بياناً أصدرته الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، أعربت فيه عن حرصها على استقرار موريتانيا، حتى إذا قدم مبعوث الجامعة إلى نواكشوط أحمد بن حلي، والتقى محمد ولد عبد العزيز، بدا وكأنه «يتفهم» دوافع «التغيير» الذي جرى، وانفرد بين مبعوثين أوروبيين وأفارقة وأجانب وفدوا إلى العاصمة الموريتانيّة بوصفه الرئيس المخلوع بالرئيس السابق، واعتبر عمرو موسى ذلك لاحقا مجرد «زلة لسان». الأسباب الأهم لنجاح الانقلاب المستجد أن قوى وتشكيلات عديدة في موريتانيا، حزبيّة وبرلمانيّة ومدنيّة، متنوعة المرجعيات، بل ونقابات وهيئات غير قليلة، تؤيده وتدعمه، وتأخذ بمسوغات من قاموا به، وإذا كان رئيس البرلمان مسعود ولد الخير أطلق نداءه، مطالباً بعودة الرئيس المخلوع إلى مزاولة مهامه، واعتبر ما جرى خرقاً سافراً للدستور الذي صوّت عليه الشعب الموريتاني بحرية، ورفض أي تعديل دستوري يفتح الباب لتشريع الانقلاب، فإن العدد الأكبر من زملائه النواب واجهوا ما قاله بأنه ليس من صلاحياته ومسؤولياته، وانحازوا صراحة إلى خطة الانقلابيين. وهو موقف تخالفه صراحة ستة أحزاب فقط (أربعة منها ممثلة في البرلمان) بين أكثر من 50 في موريتانيا. جهرت بمعارضتها الشديدة للذي يجري، وأعلنت تشكيلها «الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية»، وقالت إنها ستخوض نضالاً سياسياً سلمياً طويل النفس ضد الانقلاب على الشرعية الدستورية، وأكدت حرصها على السلم والاستقرار في بلادها. ومن أبرز قوى الجبهة حزب التيار الإسلامي الذي يتزعمه محمد جميل منصور، الناشط المشهور في المشرق بمناهضته النشطة التطبيع مع إسرائيل. وليس ظاهرا أنها ستنجح في تحقيق أهدافها التظاهرات الخجولة التي نددت بالانقلاب، فالبيانات متواترة تمتدح «الخطوة التصحيحية التي جاءت في الوقت المناسب لتفادي الانحراف الخطير في التجربة الديمقراطية»، على ما تردد مناصرة لولد عبد العزيز وزملائه. من المثير أن «تكتل القوى الديمقراطية»، ويتزعمه المعارض البارز أحمد ولد داداه الذي كان المنافس للرئيس المخلوع سيدي ولد الشيخ عبد الله في الجولة الثانية في انتخابات آذار/مارس 2006، أعلن تأييداً للانقلاب، وشارك مع أحزاب معارضة أخرى، بينها الذي يتزعمه قائد محاولة الانقلاب الفاشلة على نظام ولد الطايع في حزيران/يونيو 2003 النائب الحالي صالح ولد حننة، في بيان دعا «مجلس الدولة الأعلى» إلى التشاور حول «تحديد فترة المرحلة الانتقالية، بما يضمن العودة السريعة لحياة دستورية طبيعية، وتحديد برنامج المرحلة الانتقالية بالتشاور مع مختلف الفاعلين السياسيين في البلد، وإشراك كل الفاعلين السياسيين في تسيير برنامج المرحلة الانتقالية، وتقديم ضمانات جادة حول إجراء انتخابات حرة وشفافة». ويكشف البيان استسهال هذه الأحزاب الانقياد وراء الانقلاب المستجد، وهي التي كان يفترض أن تكون الأحرص على الشرعية ومؤسساتها، والأكثر رفضاً لصيغة التغيير بالانقلاب العسكري، والأوضح في عدم مماشاتها العسكريين وطموحاتهم وحيلهم وخياراتهم المغلّفة بشعارات إصلاحية. هذا دون إغفال وجاهة مؤاخذات غير قليلة على أداء الرئيس المخلوع في أزيد من سنة في موقعه، وعلى عدم جدّيته الكافية في مواجهة الفساد، وعلى ضعفه وعدم كفاءته في الإمساك بخيوط الحكم والنفوذ والإدارة. ويكاد المراقب لما عاينته الفضائيات ووكالات الأنباء في نواكشوط وعموم موريتانيا، يعجب من فائض المديح الذي حظي به الإنقلابيون الجدد على التجربة الديمقراطية الوليدة والناشئة في بلادهم، ومن المساندة الواسعة لما قاموا به، من تشكيلات وشخصيات مرموقة، يمكن حسبان أحمد ولد داداه منهم، وهو الذي تردّد أنه ساهم كثيرا في الشهور الماضية في التأليب الواسع ضد غريمه السابق في انتخابات الرئاسة. ومن المدهش كذلك هذا الهدوء الواسع هناك، وعدم حدوث أي اضطرابات أو إشكاليات أمنية، غير أن هذه المظاهر وأخرى غيرها، ليس لها أن تُخفي أنّ النخب السياسية والمدنية الأوسع في موريتانيا فشلت في اختبار قدراتها في التعامل بمسؤولية مع خيار الشرعية الدستورية والنهج الديمقراطي المؤسساتي، وإن عبّرت أصوات مثقفين في الداخل والخارج عن غضبهم من الذي جرى. ولا يُخفي هذا الحال الذي عُوين أنّ خيوط الحكم في موريتانيا المحدودة الإمكانيات الاقتصادية والإنمائية، ما زالت ممسوكة من طرف المؤسسة الأمنية والعسكرية التي لا يريد رجالها ورموزها أن يكتفوا بدور حماية بلدهم ومؤسساتها ونظامها، بل أن يظلوا الفاعلين الأهم، وهو ما دلّل عليه بوضوح أن الرئيس أراد، وهذا من حقوقه الدستورية، إقالة ضابط بارز من موقعه، فرأى الأخير أن يردّ بخلع الرئيس، ثم حظي بالتأييد المؤزر الواسع، و لعله في طريقه لأن ينال الموافقات الدولية والإفريقية تباعا، ناهيك عن العربية المضمونة أصلاً. |
|
|||||||||||||