العدد 39 - دولي | ||||||||||||||
صلاح حزين في استجابة للضغوط الأوروبية، ممثلة في الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الرئيس الدوري للاتحاد الأوروبي، وافقت روسيا على وقف إطلاق النار في جورجيا، ولكنها موافقة مشروطة تضمن إملاءات المنتصر. فقد أرفق الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف دعوته إلى وقف إطلاق النار، أمام الرئيس الفرنسي، بعدد من الاشتراطات المهينة لجورجيا ولرئيسها ميخائيل ساكاشفيلي، منها: إلزام الرئيس الجورجي، من خلال تعهد موقع عليه من قبله، بتجنب استخدام القوة لحل أي من النزاعات الإقليمية؛ في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وأن تنسحب القوات الجورجية من قوة حفظ السلام المرابطة في أوسيتيا الجنوبية، والتي تشارك فيها قوات محلية من أوسيتيا وقوات روسية. كما ضمن الرئيس الروسي شروطه بندا آخر يشير إلى ضرورة السماح لسكان المنطقتين المتمردتين؛ أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، واللتين تضمان الكثير من السكان من أصول روسية، بالتصويت على ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى روسيا. وزاد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بأن الرئيس الجورجي إن لم يوافق على هذه الشروط، فإن روسيا مضطرة إلى اتخاذ إجراءات أخرى لمنع تكرار ما حدث أخيرا في جورجيا. الشروط القاسية والمذلة التي فرضتها روسيا لوقف إطلاق النار، تعكس النجاحات العسكرية التي حققتها الدولة الشيوعية السابقة في أول استخدام للقوة خارج حدودها في حقبة ما بعد الشيوعية، حيث سحقت القوات الروسية المتفوقة عددا وعدة وطرق إمداد وغير ذلك من عناصر التفوق العسكري، القوات الجورجية التي كانت قد هاجمت منطقة أوسيتيا الجنوبية المتمردة على المركز في تبليسي بأمر من الرئيس الجورجي ساكاشفيلي في الأسبوع الماضي. وبعيدا عن التفاصيل؛ الاتهامات الروسية للقوات الجورجية بارتكاب «مجازر» ضد السكان الروس في الإقليم المتمرد، واتهامات جورجيا للقوات الروسية بقصف بعض المدن الجورجية عشوائيا وسقوط ضحايا مدنيين، على أهمية هذه الاتهامات التي تستند إلى وقائع حقيقية على أي حال، فإن ما حدث أخيرا في تلك المنطقة الاستراتيجية المهمة يشير إلى تغيرات خطيرة على المستوى الدولي، ففي واقع الأمر أن منطقة التوتر الأكبر في العالم قد انتقلت من مناطق مثل الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، إلى المنطقة المحيطة بروسيا؛ البلقان وقزوين. وكانت خطوة الرئيس ساكاشفيلي باستخدام القوة لإعادة إقليم أوسيتيا الجنوبية المتمرد إلى الحظيرة الجورجية هي الشرارة التي أعطت الروس فرصة التحرك لتثبيت أقدامها في منطقة حوض بحر قزوين. بعمليتها العسكرية في جورجيا، كانت روسيا تعيد رسم خريطة تلك المنطقة الاستراتيجية القريبة من إيران وتركيا، والتي تتمتع بثروات كبيرة من الطاقة، وتعيد فرض نفسها بوصفها اللاعب الإقليمي الأساسي هناك، حتى لو كان ذلك من خلال عملية عسكرية تزهق خلالها أرواح، بمن فيها أرواح مدنيين. وفي صورة ما، يمكن اعتبار العملية الروسية العسكرية ردا على خطوة أميركية سابقة بدعوة جورجيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي دعوة وجهها الرئيس الأميركي جورج بوش ووافق عليها الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، ولكن دولا أوروبية ذات نفوذ، أهمها ألمانيا وفرنسا تحديدا، لم توافق على ذلك في مؤتمر دول حلف الناتو الذي عقد في العاصمة الرومانية في الربيع الماضي، وفضلت إرجاء الخطوة. وبحسب محللين، فإن هذه الخطوة قد انتهت ولم تعد مطروحة بعد الآن، كما لم تعد مطروحة مسألة انضمام أوكرانيا إلى الحلف، هي التي كانت، وما زالت ربما، تسعى إلى ذلك. هدف آخر سعت روسيا إلى تحقيقه من خلال عمليتها العسكرية، هو تعميق الاختلافات داخل الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو والاتحاد الأوروبي، وهي اختلافات تتمحور حول الطريقة التي يجب فيها التعامل مع روسيا، وهل يجب محاصرتها بدول أعضاء في حلف شمال الأطلسي؟ وبدرع صاروخية في بولندا وجمهورية التشيك؟ وباتخاذ خطوات «استفزازية» لها مثل الموافقة على انفصال كوسوفو عن صربيا؟ وما إلى ذلك من خطوات، يقف وراءها بعض صقور دول الحلف، وبخاصة دولا مثل جمهوريات البلطيق وبولندا ودول اشتراكية سابقة. وفي المقابل هنالك دول تدعو إلى سياسية أكثر «حمائمية» تجاه روسيا، ويقف على رأس هذه الدول فرنسا وألمانيا، وهما أقوى دولتين في أوروبا، فالدولتان الكبيرتان تدركان أن هنالك الكثير من المصالح التي تربطهما بروسيا؛ فمن المعروف أن روسيا هي التي تمد أوروبا بالطاقة التي تحتاجها تلك البلاد الباردة، وأن أنابيب الغاز تمر من خلال دول تتخذ مواقف عدائية من روسيا مثل جورجيا وأوكرانيا، وأن أي مواقف تعتبرها روسيا استفزازية تتخذها هذه الدول يمكن أن تسفر عن قطع تلك الإمدادات الحيوية. المواقف الأوروبية المتباينة، تفجرت في الأحداث الأخيرة فتحولت إلى ما يشبه الانشقاق، فقد وقفت ألمانيا، وإلى حد ما فرنسا، التي هرع رئيسها ساركوزي إلى جورجيا لإنقاذ ساكاشفيلي، وكذلك إيطاليا، موقفا معارضا لذاك الذي اتخذه الرئيس الجورجي باستخدام القوة في حل مشكلة أوسيتيا الجنوبية، فيما بادر قادة دول البلطيق وبولندا إلى زيارة جورجيا لإعلان التضامن مع رئيسها الذي اهتز موقفه حتى بين بعض الدول الأوروبية. ومن المفارق أن إيطاليا أعلنت موقفا «قريبا من موقف بوتين» في هذا النزاع كما أعلنت. في داخل جورجيا لم يكن الأمر مختلفا عما هو عليه الموقف الأوروبي المتباين، فالخطوة التي أقدم عليها ساكاشفيلي بمهاجمة أوسيتيا الجنوبية، لقيت تأييدا من قسم كبير من الشعب الجورجي، حيث خرجت تظاهرات تأييد للخطوة العسكرية رافعة الأعلام الوطنية الجورجية في ساحة الحرية في العاصمة تبليسي، لكن قسما آخر اعتبر الخطوة رعناء لا تأخذ في الاعتبار حقائق الجغرافيا بوصفها العنصر الأكثر حسما في تحديد الاستراتيجية السياسية للتعامل مع دول الجوار، وبخاصة إذا كان ذلك الجار بلدا قويا مثل روسيا. في مطلع ستينيات القرن الماضي، حاول الزعيم الكوبي فيدل كاسترو أن يتحدى هذه القاعدة من خلال نصب صواريخ سوفياتية في كوبا التي لا تبعد عن شواطيء فلوريدا الأميركية أكثر من ثمانين ميلا، فلم تقف أميركا ساكتة على هذا الخرق لقواعد الجغرافيا، والأيديولوجيا، والأيديولوجيا ليست بعيدة عن الخطوة الجورجية في أوسيتيا على أي حال، وكادت حرب عالمية ثالثة أن تندلع من جراء ذلك. وربما كانت هذه الواقعة التاريخية هي التي جعلت ألكسندر رار، وهو خبير في الشؤون الروسية في المجلس القومي للشؤون الخارجية الألمانية وكاتب سيرة رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، يقول: إن بلدا مثل جورجيا لديه مثل هذه المشكلة، ويقوده رئيس متشدد حامي الرأس لا يمكن أن ينضم إلى الناتو، فهو قد يأخذ جميع دول الحلف رهينة لبدء حرب عالمية ثالثة. |
|
|||||||||||||