العدد 39 - أردني | ||||||||||||||
دلال سلامة في الفضاء، نُصبت حبال الزينة التي عُلقت فيها المصابيح الكهربائية والقصاصات الملونة، وعلى الأرض أُغلق الشارع بعشرات الكراسي التي صُفّت على شكل دائرة توسطتها حلقة من شبان يدبكون بحماسة، وفي الصدارة منصة حديدية ا اعتلتها فرقة موسيقية تصدح عبر مكبرات الصوت بموسيقى شقت عنان السماء؛ السماء التي كانت بين لحظة وأخرى تشتعل بلوحات مزركشة تصنعها الألعاب النارية. أشارت حنين إلى هذا كله وقالت ساخرة: «يبدو هذا مثل حفل زفاف. من يصدّق أنها مجرد حفلة لطالب نجح في الثانوية العامة في المرة الثالثة، وبمعدل 63 بالمئة». كان هذا مشهد الاحتفال الذي أقامه والدا حنين، لها ولشقيقها، بمناسبة نجاحهما في التوجيهي، لكن حنين تصر على أن هذه حفلة شقيقها وحده: «لو كنت وحدي لما حظيت بعُشْر هذا. لقد تخرجتْ قبلنا ثلاثُ شقيقات من التوجيهي والجامعة، وبمعدلات ممتازة، وكل ما فعله أهلي أنهم اشتروا كنافة». التمييز في مظاهر الفرح، من أبسط أنواع الظلم الذي يمارَس ضد الفتاة التي أنهت الثانوية، فالفتاة التي خرجت من «معركة» التوجيهي تجد أن عليها أن تخوض حرباً أخرى: الحصول على فرصة تعليم. يقول الباحث الاجتماعي يوسف عمران: «صحيح أن الشاب والفتاة يشتركان في المعاناة التي تلي إنهاء التوجيهي، وهي معاناة الحصول على فرصة تعليم جيدة، لكن معاناة الفتاة مزدوجة، ففي حين يكافح الشاب بالأساس ضد الظروف المادية، تكافح الفتاة ضد الظروف المادية والاجتماعية معاً؛ فالمجتمع لا يعطي فرصاً متكافئة للشاب والفتاة. ما زلنا نعيش منظومة من التقاليد تعطي الأولوية للشاب». قصة لينا تعبّر عن هذا الأمر بوضوح، فقد تخرجت بمعدل 91 بالمئة، وكانت ترغب في دراسة التحاليل الطبية، لكن أهلها طلبوا منها أن تختار تخصصاً أقل كلفة. لينا لها شقيق يصغرها بعام، أراد دائماً أن يدرس طب الأسنان. جيد في الدراسة، لكن ليس إلى حد يمكّنه من إحراز معدل يؤهله للقبول في البرنامج النظامي. تروي لينا: «قال لي أبي إنه على الأرجح سيضطر إلى تسجيله في أحد برامج التعليم الموازي التي تتطلب رسوماً باهظة، وهو بالتالي لن يكون قادراً على تحمل تكاليف دراستي للتحاليل الطبية، التي يبلغ ثمن ساعتها المعتمدة أربعين ديناراً، علماً أن دراسة شقيقي في البرنامج الموازي تفوق رسوم الساعة فيها المئة دينار». لينا تدرس الآن الرياضيات. ومع ذلك فهي محظوظة بالمقارنة مع سهام، التي حرمها أبوها من فرصتها في التعليم لأنه «يخاف عليها من التأثيرات السيئة»، وفق تعبيرها. والدها يعتقد، حسب قولها، إن الجامعات أوكار للفساد والرذيلة، وهو يعلق دائماً على ملابس طالبات الجامعة ويشتم آباءهن الذين يسمحون لهن بالخروج في هذه الهيئة. رغم أن سهام ترتدي الحجاب، فإن والدها رفض حتى تسجيلها في كلية للبنات، لأنه يعتقد أن البنات يفسدن بعضهن بعضاً. عمران يرى أن ظاهرة حرمان الفتيات من التعليم انحسرت إلى حدّ كبير، لكن ذلك لم يأت لاعتبارات تتعلق بالنضج الاجتماعي أو الوعي بأهمية تطوير شخصية المرأة، وإنما لعوامل اقتصادية، ففي مجتمع يعيش ظروفاً اقتصادية طاحنة، لم يعد الشاب قادراً وحده على النهوض بأعباء المنزل المادية، لهذا يبحث الشبان المقبلون على الزواج عن فتيات عاملات، أو على الأقل حاصلات على مؤهلات علمية سفتح لهن مجال العمل. الآباء يدركون هذه الحقيقة، فيعلّمون بناتهم كي يحصلن على وظيفة تتيح لهن الزواج. «هذا يفسّر التناقض بين سعى الناس إلى تعليم بناتهم، وقيامهم في الوقت نفسه بمحاصرتهن والحدّ من حركتهن في الحياة»، يقول عمران. تبدو عائشة ضحية نموذجية لما تسميه «سوء التقدير». أنهت عائشة التوجيهي قبل عشر سنوات، ورفض والدها إكمال تعليمها، ببساطة لأنه لا يرى مغزى من ذلك: «قال والدي إنني ما دمت سأتزوج في النهاية، فإنه لا يرى داعياً لإكمالي التعليم، لكنه أساء التقدير، وأنا الآن في التاسعة والعشرين، لم أدرس ولم أعمل ولم أتزوج». المفارقة في هذا كلّه، أنه في الوقت الذي يحصل فيه الشبان على فرص تعليم أكثر وأفضل، فإن الذي يبذل الجهد الأكبر في الدراسة والذي يحصل على نتائج أفضل هن الفتيات، وهذه حقيقة يعرفها جيداً العاملون في حقل التربية والتعليم. تقول نادية جبري، معلمة رياضيات، إنها لا تجد صعوبة تُذكر في التعامل مع طالبات التوجيهي، فهن ملتزمات، يؤدين في الغالب ما هو مطلوب منهن، يلتزمن لا بالدوام المدرسي فقط، بل وبالحصص الإضافية التي تنظمها المدرسة. أما محمد عياد، معلم لغة إنجليزية، فيقول إن تدريس التوجيهي بالنسبة له معضلة تتجدد كل سنة: «هناك طلاب جادون طبعاً. في المقابل هناك نسبة كبيرة منهم لا يؤدون ما هو مطلوب منهم؛ يراكمون المذاكرة ولا يلتزمون بالدوام المدرسي، فنجدهم يتغيبون بكثرة، وحتى عندما يحضرون فإنهم يغادرون قبل انتهاء اليوم الدراسي». هذه الأقوال تؤيدها نتائج الثانوية العامة في كل عام، إذ تحظى الطالبات غالباً بالمراكز الأولى. في هذا العام مثلاً احتلت الطالبات المراكز العشرة الأولى في الفرع الأدبي، وكنّ خمسة بين العشرة الأوائل في الفرع العلمي، وفي فرع الإدارة المعلوماتية (المسار الأول) احتلت إحدى عشرة طالبة المراكز الاثني عشر الأولى، وتسع طالبات في التعليم الصحي من أصل عشر. في الفروع التي تعلن الوزارة المراكز الثلاثة الأولى فيها، حصلت الطالبات على المراكز الثلاثة الأولى في الفرع الزراعي، وكانت هنالك طالبتان بين أول ثلاث في الفرعين الشرعي والتمريضي، وطالبة في كل من فرعي الإدارة المعلوماتية المسار الثاني والفندقي. قراءة نتائج التوجيهي للسنوات السابقة تقود للنتيجة نفسها، فعلى موقع وزارة التربية والتعليم الإلكتروني، تتوافر جداول إحصائية لنتائج التوجيهي للسنتين 2005 و2007، في الأولى بلغت نسبتهن من مجموع الناجحين 55.7 بالمئة، وفي الثانية بلغت نسبتهن 55.4 بالمئة. تقول المرشدة النفسية جنان مناور: «يفسر الناس ذلك بأن الشبان لديهم حرية الخروج من المنزل أكثر من الفتيات، ولديهم بالتالي ما يشغلهم عن الدراسة، وذلك بعكس الفتيات اللواتي يبقين في المنزل فلا يكون لديهن سوى التوجه للدراسة، لكنني أرى أن هذا التفسير غير دقيق. السبب الحقيقي أن الفتيات يدركن أن فرصتهن في التعليم أقل بكثير من الشبان، لهذا عليهن أن يبذلن جهداً أكبر. تعتقد مناور أن الشاب يعرف أنه حتى لو لم يحصل على معدل جيد ،فإن أهله سيدعمونه بكل قوّتهم، وسيبذلون جهدهم لتدريسه، فيضعونه في جامعة خاصة أو يرسلونه إلى الخارج. أما الفتاة فهي مضطرة للدراسة والحصول على معدل ممتاز لتثبت لأهلها أنها تستحق أن يبذلوا جهداً لتدريسها. العوائق الاجتماعية التي تواجه طالبة التوجيهي لا تقف عند هذا الحد، فهناك كثير من الآباء ما زالوا يرفضون مبدأ سكن بناتهم بعيداً عنهم، فتضطر هؤلاء البنات لاختيار تخصصات لا يرغبنها، مثل «إيمان» التي تقيم في إربد، واضطرت إلى دراسة اللغة العربية في جامعة اليرموك، مع أنه كان بإمكانها دراسة اللغة الإنجليزية -التي تفضّلها- في جامعة مؤتة: «ظل والدي يقول لي: لن تسافري، لن تسافري، وكأنني سأذهب إلى بريطانيا». والمفارقة أن هذا يحدث رغم وجود منازل للطالبات المغتربات. تقول مشرفة أحد هذه المنازل: «هناك أنظمة وقوانين صارمة يدار السكن وفقها، لهذا يمكن للآباء أن يكونوا مطمئنين أن بناتهم في أيد أمينة». في المقابل، هنالك آباء لا يفترضون أن على بناتهم أن يكنّ في «أيدٍ» ما، أمينة أو غير أمينة؛ آباء يثقون ببناتهم وبقدرتهن على خوض تجربة حياتهن دون وصاية. ريما وسماح، طالبتان جامعيتان مغتربتان تقيمان في شقة صغيرة استأجرتاها قرب الجامعة. تقول ريما: «خيّرني أهلي بين الإقامة في سكن الطالبات أو في شقة، فاخترت الإقامة مع صديقتي لأنني أردت أن أكون مستقلة». وترى سماح أن المشكلة لدى كثير من الأهالي أنهم لا يفكرون بشكل منطقي؛ فالأب الذي يضيّق الخناق على ابنته ليمنعها من ارتكاب سلوكات يعدّها سيئة، يجب أن يعرف أن بإمكانها الإتيان بهذه السلوكات حتى وهي تعود كل ليلة لتنام في بيته. هذا الرأي يؤيده عمران: «يجب أن يركز الأهالي في تربيتهم لأبنائهم على بناء شخصية تسير بضوابط داخلية، لا بقيود خارجية. القيود ليست فاعلة دائماً كما يعتقدون، فالأبناء يستطيعون التحايل عليها. علماً بأن القيود من نصيب الفتاة بالتحديد، وتلك من سمات التربية في مجتمعنا، وهي تحرم الفتيات من خوض تجارب تثري حياتهن وتطور شخصياتهن». في ثقافتنا المجتمعية، تعدّ الأمومة الوظيفة الأساسية للمرأة. ألا يجب أن تُعَدّ الفتاة لهذا الدور ببناء شخصية ناضجة وصلبة؟ تقول مناور: «أرى من خلال عملي كيف يؤدي القمع الأسري والحرمان من الحريات البسيطة والأساسية إلى تطوير شخصيات ضعيفة ومهزوزة، وأتساءل كثيراً: كيف يمكن لهؤلاء الفتيات والحالةُ هذه أن يقمن بالوظيفة التي يراها مجتمعنا الوظيفة الأساسية للمرأة: بناء الأجيال». |
|
|||||||||||||