العدد 39 - أردني | ||||||||||||||
عطاف الروضان في ساعة متأخرة من الليل، أقدم شاب على اطلاق النار على شقيقته، 23 عاماً، لحظة وصولها الى منزل عائلتها، بعد تسلمها من مركز إصلاح وتأهيل الجويدة/نساء، حيث كانت موقوفة. والسبب: تغيبها عن منزل عائلتها أربعة أشهر. بحسب مصدر أمني، فإن والد الفتاة وبرفقته عمها، حضرا لاستلام الفتاة التي كانت موقوفة إدارياً في مركز الجويدة/نساء. حيث كتب والدها إقراراً لدى المحافظ تعهد فيه بعدم التعرض لها، ولكن، وفور وصولهما للمنزل، قام شقيقها 26 عاماً بإطلاق النار عليها فأرداها قتيلة. مثل هذا الخبر أصبح عادياً كأنه قصة مكررة. الأب، أو الأخ، يعطي تعهداً بعدم التعرض لابنته/شقيقته، لكنه ينساه تماماً مع أول خطوة تخطوها إلى منزلها. وترتكب الجريمة التي تتلوها جريمة أخرى، وهكذا. ولكن لماذا كانت الفتاة في مركز الإصلاح؟ الجواب: إنها موقوفة إدارياً. الموقوفة إدارياً هي من حبست للاشتباه بتورطها في قضية أخلاقية بنظر مجتمعها المحافظ لمنع ارتكاب محارمها أو أي من أبناء عشيرتها "جريمة شرف" بحقها أو إيذائها، ويبرر حبس النساء في هذه الحالات بداعي الحفاظ على الأمن العام والسلامة العامة، ويسمح القانون بالإفراج عن أي موقوفة إذا تقدم أي شخص ليكفلها ويضمن عدم التعرض لها. واليوم تقبع نحو 60 موقوفة وراء القضبان، بحسب آخر إحصاء، من بينهن فتيات دخلن إلى مركز إصلاح وتأهيل الجويدة للنساء في الثامنة عشرة من أعمارهن ولم يغادرنه بعد مرور سنوات، خوفاً من مصير مثل مصير الفتاة البائسة. م، 33 سنة، هي أقدم الموقوفات إدارياً في مركز إصلاح وتأهيل النساء في الجويدة، فهي تقبع هناك منذ 12 عاماً، كانت قد ارتبطت بعلاقة مع قريب لها زوجت منه على إثرها، هو أفرج عنه، أما هي فما زالت تدفع ثمن "خطأ" مشترك. لم تستطع التعبير عن شعورها إلا بالقول: "أنا تعبانة كثير، ما حدا بيزورني. كانت أمي تيجي قبل ما تتعب بس هسا، ما حدا بيزورني أخواتي اتجوزوا وما بيقدروا ييجوا". سبق للنزيلة أن قدمت استرحاماً للمحافظ للبحث عن زوجها ليكفلها لتستطيع الخروج وبدء حياة جديدة كما تقول، لكنها لم تتلق جواباً منه حتى الآن، وتضيف: "ما بقدر أطلع خايفة من أهلي إخواني أربعة، لما دخلت كان عمري 21 سنة وأكبرهم كان 15 سنة كانوا زغار، هسا كبروا. ندمانة على تضييع عمري بالسجن". قد تكون غالبية قصص الموقوفات إدارياً تبدأ بارتباطهن بعلاقة يرى المجتمع أنها غير شرعية، لكن أن تسجن فتاة لأنها هشة وضعيفة فهو ما يثير السخط. ع. 27 سنة، دخلت المركز عندما كانت في التاسعة عشرة، اختارت العودة إلى المركز بعد وصولها للمحافظ للإفراج عنها، وقالت إنها تخاف على حياتها، تقول: "رجعت على المركز لأني ما لقيت أهلي بيستنوني». أمنيتها في الحياة: «ألاقي الحنان عند أمي...أنا ما عملت شي آجي عليه هون». وتدخلت مديرة السجن بالشرح: "إنها تعاني مرضاً نفسياً، والأهل لم يتفهموا طبيعته، فاستمرت بالهرب من المنزل وسجنت لحيازتها سلاحاً نارياً، فضلاً عن قضايا أخرى". من المثير للسخرية أن ع. تشعر بأنها أكثر حرية في السجن: "أهلي ما يتعاملوا معي بالطريقة اللي بيتعاملوا معي فيها هون. بحس بشخصيتي وحقوقي وإني إنسانة! بحس اني عايشة مع أهلي مو مع سجانين. عند أهلي تعرضت لمهانة وذل". هي الوسطى بين 6 شقيقات و5 أشقاء. ورداً على سؤالنا عن والدتها قالت: "هي لا تحبني وما بعرف ليش." أما مشاريع الزواج للمستقبل فهي غير واردة "انأ ما بعرف أحب". الدستور الأردني كفل الحرية الشخصية للمواطن، حيث نصت المادة السابعة منه على أن الحرية الشخصية مصونة، كما نص في المادة 8 على أنه «لا يجوز أن يوقف أحد او يحبس إلا وفقاً لاحكام القانون». يقول المحامي مراد خريسات: "عرف هذا النص لدى شراح القانون والفقه تحت مسمى مبدأ الشرعية، والذي يعني أنه في الأصل يجب ألا يعاقب الشخص إلا إذا ارتكب فعلاً يعاقب عليه قانوناً وفق نصوص واضحة وصريحة في القانون، كما لا يجوز إيقاع العقوبة على الجرم ذاته إلا مرة واحدة، بالإضافة إلى أن الجهة التي تملك حق تطبيق هذه النصوص وإيقاع العقوبة والجزاء هو القضاء، وهذا ما نصت عليه المادة 102 من الدستور الأردني: تمارس المحاكم النظامية في المملكة الأردنية الهاشمية حق القضاء على جميع الأشخاص في جميع المواد المدنية والجزائية». "الحاكم الإداري لا يحمل صفة قضائية ليوقف شخصاً أو يحبسه، إلا أنه يملك صلاحيات، وبموجب قانون منع الجرائم، فإنه يملك حق ممارسة التوقيف في حالات كثيرة منها التوقيف الإداري"، يوضح المحامي خريسات ويتابع: "قانون منع الجرائم الذي يستمد منه الحاكم الإداري صلاحية التوقيف الإداري صدر أثناء فترة الأحكام العرفية، ومن المعلوم أن الأحكام العرفية تم إلغاؤها، ما يستتبع بالضرورة أن تلغى جميع القوانين التي نشأت خلالها، فالصلاحيات التي يمارسها الحاكم الإداري لتوقيف الأشخاص غير دستورية وغير قانونية، وتكون القرارات بالتوقيف، الصادرة من قبله، عرضة للطعن أمام محكمة العدل العليا والتي تملك إلغاء وإعدام تلك القرارات". المفارقة أن الأصل، وفقاً لهذا القانون، أن يحبس الشخص الذي يشكل تهديداً لحياة الآخرين، وليس المهددة حياته، كما هو حال الموقوفات إدارياً. أستاذ علم الاجتماع، موسى شتيوي، يرى أن سبب وجود مثل هذه المشكلة، التي يصر على أنها ضمن فئة محدودة في الأردن؛ يعود لضعف في القانون، سواء من الجهة التشريعية التي لا تقوم بتعديل قوانين مجحفة بحق المرأة، وأخرى من ناحية تطبيقه، "فلا يجوز منح الأفراد حق تطبيق القانون والتسامح معهم عند ذلك". إحدى الموقوفات إدارياً صدر قرار بالإفراج عنها العام 1994، إلا أنها اختارت البقاء في المركز لوجود خطورة على حياتها، كما قالت، لذا فقد تم تعيينها في مطبخ السجن بعد تقديمها طلباً بذلك. ابتسامتها التي لا تفارق وجهها بملامحها الطفولية تقول الكثير، فبالرغم من إحساسها بالأمان في السجن، فإن ذلك لا يقارن برغبتها في الخروج منه، وما تلك الشرائط الملونة التي زينت بها المكان والشراشف الزاهية التي غطت بها الطاولات إلا إشارة لطفولة ضائعة خارج أسوار السجن ودعتها وهي بين جدرانه. ملف الموقوفات إدارياً بات ملفاً مؤرقاً لصناع القرار في الأردن، وذلك نتيجة للانتقادات الكبيرة لطريقة التعامل مع هذا الملف الداخلي الشائك، ما استدعى أخيراً تدارسه الشهر الماضي في اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان، المؤلفة من عدة وزارات ومؤسسات حكومية لبحث إمكان حل قضيتهن، وقد تم طرح خيار تشغيلهن في مختلف السفارات الأردنية بالخارج، أو المباشرة بإنشاء مركز إيواء خاص بهن. الخيار الأخير تم تنفيذه فعلاً، وقررت وزارة التنمية الاجتماعية تحويل جميع الموقوفات إدارياً إلى «دار الوفاق» التابعة للوزارة . تقول أمل العزام، مديرة الدار: "في السابق كانت الدار تستقبل النساء اللواتي يتعرضن لعنف أسري، حيث يتم استقبالهن من خلال مديرية حماية الأسرة، الآن، ستحول إلى الدار كل الموقوفات إدارياً ممن يخشى على حياتهن وليس لهن سوابق جرمية أو مدانات بجرائم الاغتصاب أو الزنا". وتضيف العزام أن الدار تقوم بدور تفاوضي مع أهالي النساء من منطلق اجتماعي بسند حكومي. وتقول إنه تم فعلاً إعادة 20 سيدة إلى أهلهن دون تعرضهن لأي أذى". في المكان الذي تتناول فيه نزيلات مركز وإصلاح وتأهيل الجويدة وجبات الطعام، وهو قاعة كبيرة ذات ألوان محايدة، علقت لوحتان بقياس كبير تحتلان مساحة الحائط المقابل، تتضمنان مناظر طبيعية لعالم افتراضي مواز، تركته النزيلات خارج الأسوار، إما لارتكابهن "جرماً" يستحق العقوبة، أو لمجرد قيامهن بفعل يرى فيه المجتمع جرما تستحق عليه القتل أو الحبس. |
|
|||||||||||||