العدد 39 - أردني | ||||||||||||||
خليل الخطيب في هدوء، أقيل مصطفى البراري، رئيس ديوان المحاسبة، على خلفية عدم انسجامه مع رئيس الحكومة، معروف البخيت، وفي هدوء أيضاً أعاده إلى الموقع ذاته نادر الذهبي، بحسب النائب ممدوح العبادي. هذا الأمر الذي قد يبدو طريفاً لدى البعض، ليس كذلك للبعض الآخر، فما جرى لم يكن مجرد سوء فهم بين رئيسين للحكومة، بل يتعلق بالوظيفة الحقيقية الموكولة لديوان المحاسبة. ففيما يرى بعض المسؤولين في ديوان المحاسبة أداة رقابية في يد مجلس الأمة على أداء الحكومة، يرى آخرون أن الديوان ليس أكثر من ذراع حكومي تستخدمه الحكومة ضد خصومها ومعارضيها. في حديث أدلى به لـ«السّجل»، عاد النائب العبادي إلى قرار كانت أصدرته حكومة فيصل الفايز، يقضي بضرورة خضوع بعض مؤسسات المجتمع المدني كالنقابات، والجمعيات لرقابة ديوان المحاسبة، ويستذكر العبادي أن هذه الخطوة فجرت خلافاً قانونياً حول دور هذا الجهاز الذي يراه البراري ذراعاً لمجلس الأمة، فيما يعتبره آخرون أداة في يد الحكومة تضغط بها على خصومها السياسيين وعلى رأسهم حزب جبهة العمل الإسلامي، وبعض النقابات المهنية. لم ينشأ الخلاف القانوني عن قرار حكومة فيصل الفايز، فالخلاف قديم ومزمن، خضعت مواد القانون المتعلقة بالديوان عدة مرات للتفسير، من قبل الديوان الخاص بتفسير القوانين، كما خضع النص الدستوري المتعلق به للتفسير من قبل المجلس العالي لتفسير أحكام الدستور، ما يشير إلى أن جذر المشكلة يعود إلى علاقة ديوان المحاسبة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية؛ ففي الوقت الذي يحدد فيه القانون مرجعية الديوان بمجلس النواب، فإنه يجعل تعيين أو عزل رئيسه بتنسيب من مجلس الوزراء، مع اشتراط موافقة مجلس النواب على العزل في حال كان مجتمعاً، أما إن لم يكن مجتمعاً، فإن مجلس الوزراء يستطيع اتخاذ إجراءات بحق رئيس الديوان، مكتفياً بتوضيحها حال انعقاد مجلس النواب، وهو ما يجعل رئيس الديوان تحت رحمة السلطة التنفيذية؛ وبهذا تفرغ حصانة الرئيس من مضمونها، بحسب نائب الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي، رحيل الغرايبة. في وقت مبكر، تنبه الأردن إلى ضرورة وجود جهاز يدقق الحسابات المالية للدولة، فأنشأت الدولة العام 1928 وفي عهد رئيس الوزراء حسن خالد أبو الهدى "دائرة مراجعة الحسابات" التي باتت اليوم جهازاً رقابياً، متخصصاً، يسمى "ديوان المحاسبة" تتعدى مهامه التدقيق المحاسبي، لتشمل الرقابة الإدارية، ومراقبة أداء جميع مؤسسات الدولة، باستثناء بعض الأجهزة الأمنية، ووزارة الدفاع. رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب النائب، خليل عطية، لا يرى تعارضاً في النصوص القانونية المتعلقة بالديوان، ويؤكد أن "أداء ديوان المحاسبة جيد جدا ولا يتعرض إلى أي نوع من الضغط ليتحول إلى أداة سياسية في يد الحكومة بمواجهة خصومها". لكنه يستدرك: "هناك بعض الممارسات التي تعيق عمل الديوان، فالمادة التي تنص على أن يفصل مجلس الوزراء في القضايا التي يقع فيها خلاف بين الديوان وبعض المؤسسات الحكومية غير مفعلة" يتفق العبادي مع عطية قائلاً: "الخلاف الأساسي ظهر عندما طالبت الحكومة ديوان المحاسبة بالتدقيق في الحسابات المالية للنقابات وبالتحديد نقابة المهندسين باعتبار النقابات جزءاً من مؤسسات المجتمع المدني الذي يشكل جزءاً من الدولة". يتابع العبادي مستغرباً: "هذا الإجراء في مصلحة النقابات أولاً وأخيراً؛ لأنه يدفع في اتجاه الشفافية ويجنب رئاسة النقابة الاتهامات ويبقيها بمنأى عن أي شبهة، ولو كنت رئيساً للنقابة لطالبت ديوان المحاسبة بمراقبة أوضاع نقابتي المالية حتى أكون مطمئناً". لكن العبادي لا ينفي "إمكانية أن يستغل رئيس الوزراء القانون الذي يجيز له اتخاذ إجراءات عقابية بحق رئيس الديوان مستغلاً عطلة مجلس النواب، كما حصل في حكومة البخيت، ما يجرح برأيه استقلالية الديوان". نائب الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي، رحيل الغرايبة، يجادل بأن "الدستور نص على استقلالية مؤسسات المجتمع المدني إدارياً ومالياً وأنه لا يحق لأي جهة حكومية اخضاع هذه المؤسسات للمراقبة أو للمساءلة باستثناء السلطة القضائية التي يحق لها، دستورياً، مساءلة الجميع". ويضيف الغرايبة: "الحكومة قدمت قانوناً مؤقتاً لديوان المحاسبة يطلق يدها في الضغط على خصومها السياسيين في جميع المؤسسات عن طريق التشكيك بأمانتهم ومهنيتهم". الرئيس الأسبق لديوان المحاسبة، عبد الخرابشة، يرى أن "رقابة الديوان على إيرادات الحكومة ونفقاتها، وعلى الجوانب الإدارية، وجودة الأداء، توفر على الدولة الكثير من الأموال، وتؤدي إلى ضبط جودة الأداء". ويستدرك الخرابشة قائلاً إن "هناك بعض المعيقات لعمل الديوان من أهمها تأخر مجلس النواب في مناقشة تقارير الديوان مما يحد من الاستفادة من هذه التقارير، إذ غالباً ما يؤدي ذلك إلى التعامل مع قضايا باتت في حكم التاريخ ولا جدوى من متابعتها". يضيف "وزير المالية يمتلك صلاحيات تخوله إغلاق ملف أي قضية فيها شبهة فساد إذا اقتنع بأن فتح هذا الملف ستكون كلفته أكبر من كلفة إغلاقه ولدى الوزير لجنة تدرس القضايا وتقدم توصياتها بهذا الشأن". وجه آخر من وجوه الإعاقة لعمل الديوان يتمثل بحسب الخرابشة «في بعض أشكال التحايل على القانون من قبل بعض الوزارات والمؤسسات الرسمية». يقدم مثالاً على ذلك: «بعض الوزراء يطلبون منحهم سيارات بنمرة بيضاء، ما يعيق عمل مديرية المتابعة التي تنسق مع الأمن العام في ضبط حالات الاستخدام غير المشروع للسيارات الحكومية». يخلص الخرابشة إلى استنتاج مفاده "لا يمكن تحقيق الأداء الأمثل للديوان إلا بتحقيق الاستقلال المالي، والإداري ومنح موظفيه صفة الضابطة العدلية التي تخولهم مراقبة عمل المؤسسات ومراقبة وثائقها دون إذن مسبق، على أن يكون ذلك تحت رقابة جهة محايدة مستقلة، أو عبر تشكيل لجنة تتابع أعمال الديوان تتكون من ممثلين عن السلطة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية بتمثيل متساو، وتكون، هذه اللجنة، هي المرجعية المالية والإدارية والفنية للديوان". الخبير الاقتصادي، والأمين العام للحزب الشيوعي، منير الحمارنة، يتفق مع ما ذهب إليه الخرابشة ويلفت إلى أن "عمل ديوان المحاسبة حقق تقدماً كبيراً في السنوات الخمس الماضية، لكن التأخير في مناقشة تقاريره قلل كثيراً من أهميتها وانعكس ذلك سلباً على هيبة الديوان كمؤسسة رقابية". رئيس ديوان المحاسبة مصطفى البراري فضل أن يعرج على التطورات التي تحققت على عمل الديوان فبين أن "عمل الديوان تطور من مجرد تدقيق الحسابات إلى الرقابة على الأمور المالية، والإدارية، ومراقبة الأداء". وردا على ما يراه البعض بأن ديوان المحاسبة هو أداة سياسية تستخدمها الحكومة في الضغط على خصومها، يوضح البراري:"الديوان بموجب القانون، يتبع مجلس الوزراء من الناحية الإدارية، ومجلس النواب من الناحية الفنية، ودائرة الموازنة العامة من الناحية المالية،وبذلك فهو يتمتع باستقلالية مقننة تكفل له أداء واجباته مع نوع من الرقابة على مختلف جوانب عمله المختلفة". وفي المحصلة "يتمتع الديوان باستقلالية تكفل له أن يكون الذراع الرقابي للسلطة التشريعية، وهو ما أكد عليه رئيس الوزراء نادر الذهبي خلال زيارته للديوان أوائل شباط/فبراير من هذا العام. البراري، رغم ذلك، يفضل أن" يتمتع الديوان بالاستقلالية التامة وأن يتمتع موظفوه بصفة الضابطة العدلية، بحيث يتمكنوا من إحالة القضايا إلى القضاء مباشرة، اختصاراً للوقت والجهد الضائعين في المراسلات واللجان الأمر الذي يضيع في بعض الأحيان حقوقاً عامة كان يمكن تحصيلها لو كانت الإجراءات أبسط وأسرع". أما عن وجود صلاحيات لوزير المالية بإغلاق ملفات قضايا اعتماداً على معادلة الربح والخسارة، وهي صلاحيات أشار إليها الخرابشة، فيؤكد البراري عدم وجود مثل هذه الصلاحيات، ويوضح: "عندما يكتشف الديوان شبهة في عمل مؤسسة ما، يراسل الوزير المعني طالباً التوضيح، فإذا جاء التوضيح تبريرياً، أو غير مقنع، أو تأخر؛ فإن الديوان يضع القضية بين يدي مجلس الوزراء المخول قانونياً بالبت في المسألة، وعليه ليس هناك تدخل في عمل الديوان، أو صلاحيات لغير مجلس الوزراء للتعامل مع خلافات الديوان مع أي مؤسسة رسمية". يؤكد البراري أن ديوان المحاسبة «يراقب التعيينات الجديدة ومدى انسجامها مع المعايير والشروط الواجب توافرها في الوظيفة أما في حالة التعيينات الاستثنائية التي تتطلب كفاءات محلية مرتفعة الأجور، أو كفاءات غير متوافرة محلياً، فإن للديوان رأيه لكن البت في ذلك من صلاحيات مجلس الوزراء». بين من يراه ذراعاً رقابية فاعلة تتمتع بالاحتراف والنزاهة ومن يراه شبه مستقل، ومن يراه أداة سياسية تستخدمها الحكومة للضغط على خصومها السياسيين يمضي ديوان المحاسبة في عمله مثيراً قدراً كبيراً من الاتفاق بين مختلف الفرقاء، على احترام أدائه المهني والمطالبة بتعزيز استقلاليته المالية، والإدارية، والفنية. |
|
|||||||||||||