العدد 38 - ثقافي | ||||||||||||||
رسمي أبو علي يثير الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار)، الإعجاب، لفرادته وريادته، ويعود كثيرون الى ديوانه «عشيات وادي اليابس» لقراءة قصائده التي تثير البهجة والرغبة في الضحك والمسامرة مع الندماء. إنه شاعر موهوب لم يخشَ الذهاب في سلوكه وشعره إلى الحد الأقصى، فقد كان ممن يتطابق سلوكهم مع أدبهم وكتاباتهم، ولم تكن هناك فجوات بين المكونات الأساسية لشخصيته. يبدو لبعضهم أن عرار كان يتناقض مع نفسه أحياناً؛ يلعب دور المعارض للحكومة، في الوقت الذي يعمل فيه بمنصب إداري كبير بعد نيله شهادة الحقوق التي حصّلها بجهد ذاتي. كان ذلك جزءاً من إشكاليته، وربما من فلسفته في أن للمواطن حق المعارضة دون أن يتناقض ذلك مع عمله في الجهاز الحكومي. ورغم خطابه المتمرد والمنشق، فلم تخلُ مواقفه من المرونة والمسايرة، وهو ما برره في إحدى المناسبات بمسؤوليته نحو العائلة: الزوجة، والأولاد «زغب القطا». كان عرار المولود في إربد 1899، شاعراً بوهيمياً عاشقاً للحياة وللحرية ممثلةً في "النَّورَ"، متطلعاً للتفلت من التقاليد والأعراف الأخلاقية والسلوكية السائدة. تولى عرار مناصب مرموقة في ثلاثينيات القرن الماضي.. كان ذلك يقتضي التزامه بسلوكات تقليدية، لكن نفسه التوّاقة الى نقيض واقعه الوظيفي -الذي كان يراه بائساً- لم تستطع إلا أن تعبر عن نفسها بالشعر المقرون بجلسات الشراب مع الرفاق، وأيضاً بعشق النساء، وبخاصة القوقازيات والغجريات.. «برفين»: الفتاة الشركسية التي عشقها وكتب فيها أجمل القصائد، أصبحت حكايته معها شأناً ذا بعد سياسي ديني، تدخّل فيه –كعادته- الشيخ عبود، صديقه وخصمه الذي كان عرار يحبه ويداعبه في حوار ديمقراطي يُظهر التزمت الذي يمثله الشيخ عبود في مقابل انطلاقة عرار. أما الغجريات، فيتقدمهن كربان سفينة، الهبرُ حافي القدمين شيخ النَّور ومدير ليالي البهجة والغناء والمتعة والشعر، هناك إلى الغرب من عجلون، حيث وادٍ يدعى «وادي اليابس». لم يكن وادياً يابساً، بل غزير المياه، وافر البهجة لمن يزوره. وعرار يطأ فيه أرض الحرية حيث لا عبد ولا سيد، ولا رجل ولا امرأة، فكلهم أبناء الله، الذين يحتفلون بوجودهم. إنهم أناس انتبذوا مكاناً قصياً، وأرادوا العيش على هواهم، لا على هوى سكان المدن والبلدات وأخلاقياتهم المتزمتة. لكن هناك دائماً من ينتدب نفسه نيابة عن الدين وعن الأخلاق، دون تكليف من أحد، معتقداً أن واجبه مراقبة الناس كي يسيروا وفق صراطه. حاول عرار التوفيق بين الحد الأدنى من التزاماته الاجتماعية كونه أباً وصاحب أسرة، وموظفاً مرموقاً، ثم محامياً، وبين نزعته غير القابلة للشفاء تجاه الحياة الحرة -ولعله وُفِّق في بعض السنوات- لكن ذلك الصراع الذي تدخل فيه كثيرون في إطار معارك كلامية واتهامات مقذعة، أثر في صحته وأعصابه، فمات مبكراً في العام 1949 عن خمسين سنة فقط. عشق عرار الغجريات لا بوصفهن شخصيات نسائية مستقلة فحسب، بل كمجموعة تشاركه السهر والمتعة والغناء. ولم يكن يتعالى على أصدقائه من النَّوَر، بل يعاملهم بمحبة واحترام كما يعامل الإنسان أقرب الناس إليه، حتى إنه في سنواته الأخيرة تماهى بأصدقائه هؤلاء تماهياً اجتماعياً كاملاً، انطلاقاً من شعوره أنه منبوذ من المجتمع مثلهم. يا أخت سلمى في غناك عذوبة تبكي ويُغرق دمعها أحزاني يا أخت وادٍ قد دعوتك باسمه ولــه نسبــتُ تبرّكاً ديواني كان عرار عاشقاً للأمكنة الأردنية، فسمّاها في قصائده بأسمائها: معان، وادي اليابس، الطفيلة، الثنية، ماحص، الفحيص، إربد، السلط.. وسواها من أماكن تكشف علاقته الحميمة بالمكان، حتى إنه اختار «وادي اليابس» عنواناً لديوانه، تقديراً لذلك الوادي وقاطنيه من أصدقائه. يمثل عرار الشخصية اللامنتمية بالمعنى الوجودي، وهذه سمة أخرى من عناصر إشكاليته. عارض الحكومة آنذاك، مهاجماً بعض شخوصها دون هوادة، مندداً بالوجود البريطاني في الأردن، مصرحاً بمشاعره غير الودية نحو فردريك (بيك) ومن بعده غلوب باشا أبو حنيك. ومن ناحية ثالثة، شن هجوماً لا يتوقف على المتزمتين وأشهرهم صديقه عبود، وظل صامداً في مواجهته، وربما ورث شيئاً من العناد من أمه الكردية: ماذا على الناس من سكري وعربدتي ماذا على الناس من كفري وإيماني ماذا على الناس من حبي مكحّلةً بيــن الخرابيــش أهواهـا وتهواني قالوا: ذوو الشأن في عمّان تغضبهم صراحـــتي.. ولــذا أفتوا بحرمــاني واستنكروا شرّ الاستنكار هرولتي إلى الخرابيش مع صحــبي وخِلاّني ما كان أصدق هذا القول لو عرفت عمّـــان قد خلقت إنسان ذا شـــأن إنه رد مفعم بالمرارة والغضب، يكشف عن إنسان يؤمن أن حياة الإنسان الشخصية مُلك له وحده، وأنه حرّ في حياته ما دام لا يؤذي أحداً .. لكن الثقافة الاجتماعية السائدة لها منطق آخر، ما جعل عرار منشقاً اجتماعياً، حيث حياته الحقيقية في خارج الوظيفة والأسرة والمجتمع. إنه لمن حسن التدبير إعادة الاعتبار لهذا الشاعر من الدولة، ومن المجتمع كذلك.. ففي ذلك تقدير للفكر المتسامح، وللتعدد الفكري والتنوع الثقافي. |
|
|||||||||||||