العدد 38 - كتاب
 

ما يميز الاشتغال الثقافي والفني في سائر حقوله بالأردن، اعتماده على الجهد الفردي أساساً، ما يعني غياب فعل المراكمة، وبالتالي العودة إلى المربع الأول. ووصْف الأمر بـ"الميزة" كما جاء في مستهل الكلام، لا يمنحه الموقع الإيجابي في كل الأحوال، بل يضعه في موضع السؤال.

القول إن الإبداع فردي لا يضيف جديداً، فإنجاز الرواية أو الفيلم أو اللوحة هو مشروع شخصي. الجديدُ أن مفهومَي الثقافة والتلقي، تغيرا في عصر العولمة والكمبيوتر والفضاء، وأن الفردية لم تعد مرتبطة بالإنجاز، وإنما بالفاعلية.

هذه الفاعلية تتجاوز الفرد إلى هيكل البيئة الإنتاجية وقيمها ودينامياتها الاجتماعية. بمعنى أن الإبداع تحول إلى صناعة -وثمة فرق بين "صناعة" و"تجارة"- وأصبح مرتبطاً بعدد من الحلقات التي تتصل بالإنتاج والتسويق والإعلان والشحن والنقل، فضلاً عن اتصاله بصناعات أخرى، فالرواية والقصة ترتبطان بصناعة السينما والتلفزيون، والقصيدة تتصل بالأغنية والموسيقى والتوزيع، والتشكيل بالجرافيك والمؤثرات، وكل ذلك يقع في دائرة الملْكية والحقوق والتشريعات. هذه مؤشرات للاستخلاص بأن الفردية في الإبداع لا تتصل بالضرورة بجذر الفردانية، وإنما بالمؤسساتية التي تنشط في بيئة المتخيل الاجتماعي، الذي يتمتع باستجابة ذكية للتحولات في العالم التي أصبحت فيها الثقافة عصب الإنتاج في العالم الذي تسيطر عليه الميديا. وهي استجابة لا يمكن أن تتحقق بالتحديق في الجدار، وإنما بتحديث القوانين، وتغيير وظائف المؤسسات التي قامت على أساس توجيهي للعب دور إنتاجي، والمشاركة مع القطاع الخاص وفق رؤية تستند إلى المشاركة وليس الامتثال.

في الأردن، هناك مؤسسات خاصة بادرت إلى تبني مشروع "الثقافة" بالموازاة مع مشروعها المالي أو الخدمي، ومنها: أمانة عمان الكبرى (عبر إنشاء الدائرة الثقافية وإصدار المطبوعات)، البنك العربي (إنشاء مؤسسة عبد الحميد شومان)، مؤسسة خالد شومان (دارة الفنون)، البنك الأردني الكويتي، البنك الأهلي الأردني (مؤسسة "أهلنا" للعمل الثقافي والاجتماعي)، وكان قبل ذلك غاليري عالية. وثمة مؤسسات عربية منها: البابطين، العويس، مؤسسة الفكر. هذه المؤسسات ما تزال تحيا في "كنتونات" معزولة، فقد تلمست وعي الحالة دون أن تنضج البيئة لإخصابها، وهي بصورة من الصور تعبّر عن متخيل واعٍ للتحولات، لكن بإيقاع الخارج، لا بحركية الداخل. كما إنها لم تتناغم مع التطور الذي أصاب بيئة التشريعات، والتغيّر الذي حصل على مفاهيم كـ"الثقافة"، إذ لم تعد الثقافة تشير إلى ما يُنتج من نص شعري أو روائي أو لوحة، على أهمية ذلك، وإنما في ما يتركه النص من أثر في تغيير خريطة التفكير عند المتلقي وهندسة وسيلة تلقّي المعرفة، وتعامل المتلقّي مع الآخرين، وتوظيفه للمعلومة، وكيفية حواره ونتيجته، وانعكاس ذلك على السلوك اليومي.

فردية الإبداع، إذاً، انعكاسٌ لفاعلية المجتمع، وضعف الفاعلية يؤدي إلى نوع من الانسحاب والعزلة، أو قطيعة المبدع والمؤسسات المبادرة عن شبكة المجتمع.

المشكلة الثانية هي العودة إلى المربع الأول، بمعنى أن العمل اللاحق لا يلتفت إلى مراكمة السابق، وأن المتحقق يرتبط بزمانه الآني، أو يغتصب الزمان بحضوره دون إشارة لما تحقق من قبل، وهي مشكلة تتعلق بغياب التوثيق والأرشفة. أما ثالثة الأثافي، فهي الفساد الثقافي، الذي يأتي في سياق فساد أوسع، ويتجلى في عدد من المظاهر التي تتصل بالشللية، والاستقطابات، والاقصاءات، التي تَحُول دون دمقرطة الثقافة، ودون مشاركة الجميع بفاعلية في صنع القرار الثقافي.

هذه المشكلات تنضاف إلى ما تعانيه الثقافة من إهمالٍ من قِبل المسؤول، ومن تجاهل صاحب القرار الذي يضعها في آخر سلم أولوياته، لتغدو الثقافة بذلك على هامش الهامش.

حسين نشوان: هامش الهامش
 
07-Aug-2008
 
العدد 38