العدد 38 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي
لم ينتم طاهر حكمت (مواليد معان 1940) لأي تيار فكري أو سياسي، غير أنه عاش وما زال في لجة هذه التيارات، مدفوعاً بنزعة ثقافية تأملية مع زاوية نظر قانونية ودستورية. وهو ما جعله نجم المنتديات والمؤتمرات في العقدين الماضيين، وعضواً نشطاً في لجنة الميثاق الوطني ثم في الأجندة الوطنية (مقرراً للجنة العدل فيها). قلة قليلة يعرفون اسمه الكامل: "جعفر طاهر"، "مصطفى حكمت" العياشي. تعود جذوره إلى بلدة إدلب السورية، قرب حلب. والده كان ضابطاً في الأمن العثماني وفي الكلية الحربية في استانبول. وقد لجأ إلى شرقي الأردن أمام عسف الفرنسيين، والتحق بالجيش العربي ملازماً أول غداة وصول الأمير عبدالله المؤسس إلى معان العام 1921. ولا شك أن اسمه المتداوَل اسم الشهرة، أكثر رشاقة من اسمه الكامل المركب مرتين، وهو الرشيق المهندم العازب، صاحب مكتب المحاماة دون أن يمارس المهنة حالياً، إذ يكتفي بالتحكيم الدولي لمرة أو مرتين في العام، بينما يضم المكتب شقيقه المحامي بهاء وشقيقته المحامية تغريد العضو في المحكمة الجنائية الدولية. وفاة والده في مطلع الستينيات أورثته شعوراً عالياً بالمسؤولية كابن أكبر. فقد تعهد تزويج أشقائه وشقيقاته، دون الانتباه آنذاك إلى أن قطار الزواج يبتعد عنه هو. لكنه أدرك قطار العمل العام منذ وقت مبكر. فقد وضع وثيقة "الاتحاد الوطني" في العام 1978، وهي وثيقة ذات رؤية يسارية كما يقول، وحيث كان هناك تأثر بالرؤية الشمولية لحزب يقود الحياة السياسية، وكان مقدَّراً لـ"الاتحاد الوطني" أن يكون بمثابة حزب كبير للدولة. لكن هناك من خشيَ من النمو الهائل لحجم العضوية فيه، فأجهضت التجربة (تولى مصطفى دودين ثم جمعة حماد الأمانة العامة للاتحاد). طاهر حكمت يرى أن التجربة كانت جريئة في حينها وبمعايير ذلك الزمان، وقد أسهمت على الأقل في لأم الشرخ الذي تسببت به أحداث أيلول.. حول الأحداث هذه ذاتها، يقول طاهر حكمت إنه لعب مع المرحومين إبراهيم بكر وجمال الشاعر دوراً في محاولات التقريب بين الحكومة والمنظمات الفدائية، وكان هناك من يحتسبه في الحالتين على هذا الفريق أو ذاك. إضافة إلى موقعه في المجلس التنفيذي لنقابة المحامين، بما يدلل أن الرجل غير الحزبي والقانوني لم يكن منذ البدء منقطعاً عن العمل العام، ولا عن الزرقاء وأهلها الذين يكنّ انتماءً لهم، وما زال يقيم فيها خلافاً لوزراء ومسؤولين سابقين نزحوا عن مواضعهم السابقة إلى العاصمة. يصف طاهر حكمت نفسه بأنه ليبرالي سياسياً، محافظ اجتماعياً، وفي ذلك يراه بعض عارفيه مع احترامهم له "نموذجاً عتيقاً". لا يجد هو تناقضاً في الأمر. يأخذ على الجيل الجديد من الليبراليين أن ليبراليتهم تتوقف عند إطلاق قوى السوق، دون العمل على استيفاء العملية الديمقراطية لجوانبها المختلفة. في رأيه أن التوسع في نشاطات المجتمع المدني وكثير منها ممول خارجياً، والإغراق الإعلامي المدعوم أحياناً من الخارج على مستوى التدريب والتأهيل، والحديث عن تمكين المرأة واستثمار طاقات الشباب، كل ذلك يتم بصورة واعية أو غير واعية، مع حجب القضية الأساسية وهي الإصلاح السياسي، والتقدم على طريق تداول السلطة. بما يجعل هذا الحراك دون فائدة ترجى على مستقبل العملية الديمقراطية في البلاد. طاهر حكمت ساهم منذ مطلع التسعينيات في قوننة مرحلة التحول الديمقراطي إلى جانب إبراهيم عز الدين، وبالذات في وضع قانونَي المطبوعات والأحزاب آنذاك. فهو من الناشطين على الجبهة الخلفية لا الأمامية، ومن بناة البنية التحتية القانونية التي لا حياة سياسية دونها. وهو يقترح الآن مؤتمراً وطنياً جامعاً يضم سائر الأطراف بغير استثناء لتدارس التحديات التي تواجه البلاد والخروج بآليات متفق عليها لتطوير العمل العام. لا يروق له الحال الراهن. يرى أن الفجوة تتسع بين المسؤول والمواطن. الأول يبدو كمن فقد البوصلة، والثاني ينوء تحت حالة تشكك وقلق على المصير الفردي والوطني. المخرج في إعادة التجسير وبسط الأمور كما هي عليه أمام المواطن وتوسيع دائرة المشاركة. في رأيه أن شطراً كبيراً من الصحافة يسهم في نشر حالة ضبابية أو حتى حرف الوعي العام. مع ذلك لا تتسم نبرة "أبو مصطفى" بالتشاؤم. ثمة تفاؤل خفي يسكن عباراته. ففي قناعته أن البلد صغير وعدد سكانه ليس كبيراً ومشاكله قابلة للحل. غير أن "الطبقة السياسية" منشغلة بجمع المال لدرجة الهوس الذي انتقل إلى النخب الاجتماعية والسياسية. طاهر حكمت الذي نشر عدداً كبيراً من الدراسات لم يؤلف كتاباً، وقد فرغ مؤخراً من وضع كتاب عن "النخبة السياسية الأردنية قصة فشل أم نجاح" باللغتين العربية والإنجليزية. يعدّ كتابه حساساً، يتناول قضية جوهرية ويسمي الأشياء بأسمائها. ويستعد لنشره جامعاً فيه خلاصة رؤاه وتجاربه. يمتلك في هذا الخصوص رأياً نقدياً حاسماً مفاده: لقد فشلنا في بناء دولة حديثة. يرى أن كثيراً من التشوهات والمشكلات ما كانت لتظهر، لو أصبنا نجاحاً في هذه المهمة الكبيرة. يسخر من تعبيرات مثل "الحكم الرشيد"، ففي رأيه أنه لا حاجة لهذه الصفة، فالأصل أن يكون الحكم رشيداً، كيما يكون حكماً. طاهر حكمت من شريحة الحكماء، المهجوسين بالعدالة ودولة القانون وحقوق الإنسان. بل يبدو على قدر من المثالية التي فارقت زماننا. يستهول أن يعمل مسؤول سياسي أو ناشط في العمل العام في التجارة. ذلك يُلحق به شبهة المصلحة. يرفض حتى الآن أن يعمل مستشاراً قانونياً لدى كبريات الشركات، رغم الفائدة المالية المجزية. سبق أن عمل رئيساً لمحكمة التمييز ومجلس القضاء الأعلى. في قناعته أن إصلاح القضاء لا يتحقق، إلا ضمن منظور شامل ينصلح فيه حال المجتمع والدولة على السواء. تلقى تعليمه الجامعي في دمشق ابتداء من العام 1956، فشهد الوحدة وعراقة جامعة دمشق وتأثر النخب السورية آنذاك بنمط الحياة الفرنسي. غير أنه يدين كما يقول بتفتح وعيه للثقافة المصرية، فقد نشأ في بيت يضم أعداداً وفيرة من مجلات "الرسالة" و"المقتطف" و"الهلال" وبضعة مؤلفات من سلسلة الألف كتاب. في رأيه أن النخب الأردنية تعرفت على الثقافة الغربية عبر الثقافة المصرية في الخمسينيات والستينيات، وأن الأثر الثقافي الباقي للمرحلة الناصرية، يفوق أثرها السياسي. |
|
|||||||||||||