العدد 37 - اقليمي | ||||||||||||||
صلاح حزين قبل ساعات من انعقاد جلسة للمحكمة الدستورية في تركيا، وهي أعلى محكمة في البلاد، للبت في قضية مرفوعة ضد حزب الرفاه التركي الحاكم مطالبة بحظر الحزب ومنعه من العمل، كانت اسطنبول، تشهد انفجارين قتل فيهما 17 شخصا وجرح أكثر من 150 آخرين. هذان الحدثان اللذان لا يبدو، للوهلة الأولى، أنهما يمتان لبعضهما بصلة، يلخصان أزمة تركيا اليوم؛ فالقضية التي تنظرها المحكمة، رفعها ضد الحزب الذي يحكم تركيا، المدعي العام في المحكمة الدستورية، تشير إلى أزمة الهوية التي تعيشها الأمة التركية، والتي تحاول أن تكون أمة إسلامية بما يعنيه ذلك من الالتزام بأسس الديانة التي تدين بها غالبية الشعوب التركية، وتكون في الوقت نفسه أمة أوروبية، مع ما يعنيه ذلك من التزام بمبدأ العلمانية الذي يحظى من جانب كثيرين، بمن فيهم العسكريون المتنفذون هناك، بقداسة خاصة بوصفها إرث مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، الذي تجب المحافظة عليه نقيا من كل شائبة. أما التفجيران اللذان لم تعلن المسؤولية عنهما أي جهة، فإنهما يشيران إلى جانب آخر من جوانب الأزمة التركية، وهو جانب لم تتمكن من حله بعد، لا من خلال الهوية الإسلامية ولا من خلال الانتماء الأوروبي، هو ذاك المتعلق بقضية أكراد تركيا الذين يطالبون بنوع من الحكم الذاتي في إطار الدولة التركية، ولكن، وكما يجري في جميع الحركات المشابهة، يلجأ بعض الفصائل التركية إلى نوع من العمل المسلح الذي يخالطه إرهاب يودي بحياة العديد من المدنيين. ومع أن أحدا لم يعلن مسؤوليته عن التفجيرين، فإن كثيرا من المحللين السياسيين الأتراك، وخبراء الإرهاب، رأوا فيهما استمرارا، وإن من دون إعلان، لعمليات إرهابية اعتاد حزب العمال الكردستاني، وهو الحزب الذي يقود نضال الشعب الكردي اليوم، على القيام بها. وكان هناك من المحللين من رأى في هذين الانفجارين انتقاما لضربات كان الجيش التركي قد نفذها ضد مقاتلي الحزب وقواعده في شمال العراق. حل المشكلة الكردية حلا ديمقراطيا، والاعتراف بالإرث العلماني الذي تراكم في تركيا من 85 عاما هو عمر تركيا الحديثة، هما جواز السفر لمرور تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وإن كانت تركيا تتعثر في حل المشكلة الأولى، وتحاول بالتالي استغلال الطابع الإرهابي لبعض عمليات حزب العمال الكردستاني العسكرية لتعبئة الدول الأوروبية، والولايات المتحدة ضد الحزب، فإن المحك الحقيقي لتركيا هو احترام الإرث العلماني للبلاد. في هذا المجال، هنالك ما يشبه الإجماع على أن حزب الرفاه الحاكم في تركيا قد حقق الكثير، على الرغم من جذوره الإسلامية، فهو أكد في أكثر من مناسبه احترامه للإرث العلماني للبلاد، وبذلك فإنه لبى مطلبا داخليا، بأن تجنب غضبة العسكريين الذين يعتبرون أنفسهم القيمين على حماية إرث أتاتورك. وخارجيا بأن كسب رضا دول الاتحاد الأوروبي الذي كانت تركيا قدمت طلبا للانضمام إليه وقطعت شوطا طويلا في تلبية شروط الدول الأوروبية لقبول الطلب التركي. العسكريون الذين بدا واضحا أنهم يتربصون بحزب الرفاه، هم الجهة الأكثر نفوذا وقوة في البلاد، وتجنب الاصطدام معهم هو جزء من الحكمة السياسية التي يتمتع بها الحزب الإسلامي، فالعسكريون قادوا ثلاث انقلابات منذ 1960 أطاحوا خلالها حكومات منتخبة في البلاد، وهم، بلا شك، قادرون على تكرار التجربة للمرة الرابعة. وقد استفاد الحزب الحاكم في تجنب الاصطدام مع العسكريين، مستعينا في صورة غير مباشرة بمجموعة من الحقائق السياسية الصلبة، أهمها أنهم، أي العسكريين، لم يعودوا بالقوة نفسها التي كانوا عليها حين تدخلوا في السابق في الأعوام 1960، 1980 و1993. فما كان مسموحا به أيام الحرب الباردة، وكانت لتركيا أهميتها الاستثنائية في تلك الأيام، لم يعد مقبولا اليوم من جانب أوروبا. ومن المفارق أن الدول الأوروبية التي تشترط احترام العلمانية وحقوق الإنسان في الدول المنضمة إليها، تتخذ موقفا أكثر توازنا من بعض القوى العلمانية الداخلية في تركيا فيما يتعلق بأداء الحكومة التركية بقيادة رجب طيب إردوغان، وخاصة فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان؛ ففيما تهول بعض الأحزاب العلمانية التركية، وبعض المنظمات ذات الطابع الفاشي من بعض الخطوات التي أعلنت الحكومة أنها سوف تتخذها، مثل محاولة السماح بارتداء الحجاب في الجامعات، فإن الدول الأوروبية وضعت الخطوة في حجمها الحقيقي، خاصة وأن تلك الدول تضم أقليات مسلمة تحاول أن تحافظ على إرثها الديني، ما يجعلها تعرف تمام الحدود التي تبدأ عندها حقوق الأقليات الدينية وتلك التي تنتهي بها. وفي هذا الإطار، ففيما كانت المحكمة الدستورية تعقد جلسة لها للتقرير في شأن الحزب الحاكم، كانت محكمة أخرى تحاكم مجموعة تسمى "إرغينوكون"، وهي منظمة غامضة تضم جنرالات سابقين وصحفيين وأكاديميين متهمين بالإعداد للقيام بحملة اغتيالات لمن تسميهم المنظمة أعداء الدولة، وهو تعبير يندرج في إطاره الكتاب الليبراليون والأكراد وبعض السياسيين، بمن فيهم سياسيون ينتمون إلى الحزب الحاكم. لقد تمكن الحزب الحاكم، من المحافظة على توازن دقيق بين برنامجه "الإسلامي" المعتدل الذي حصل من خلاله على أغلبية غير مسبوقة في البرلمان، وبين متطلبات الدولة العلمانية التي هي إحدى حقائق الحياة السياسية في تركيا. ولكنه يجد نفسه اليوم في مواجهتين: عسكرية مع حزب العمال الكردستاني، وقضائية مع المحكمة الدستورية، ومواجهته لهذين التحديين هو ما يحدد نجاح الحزب في حكم تركيا وجدارته بها، وبالتالي نجاح تركيا في الامتحان الأكبر الذي عليها أن تجتازه؟ |
|
|||||||||||||