العدد 37 - اقليمي | ||||||||||||||
معن البياري من تحصيل الحاصل، أن يقال إنّ تجربة اللبناني سمير القنطار شديدة الاستثنائية، طوال 29 عاماً في سجون إسرائيل، بعد أن حكم عليه بالسجن 542 سنة (!)، عقب عملية فدائية شارك فيها في إبريل/نيسان 1978. وفيما كان ملايين العرب، (يتابعون في نهار 16 تموز/يوليو الجاري وقائع وصول القنطار وأربعة أسرى محررين آخرين إلى بلدهم، في جنوبه أولاً ثم إلى المطار في بيروت، ويحظون باستقبال وطني.. فيما كانوا يتابعون على شاشات بعض التلفزات تلك المشاهد، كانت الأنظار والأذهان تتجه إلى شخص القنطار، وتترقّب ما سيقول في تظاهرات الفرح بالإفراج عنه، وفي المقابلات التلفزيونية معه، لمعرفة ما أحدثته الأعوام المديدة في سجون المحتل على هذا الشاب الذي أسر في السادسة عشرة من عمره، فالمؤكد أن لها مفاعيلها المغايرة لأية ثلاثة عقود أخرى في حياة أي إنسان يعيش حياته الطبيعية. لدى إطلاق سراحه في أيار/مايو 2003، لم يحظ أحمد موسى جبارة (أبو السكر)، وكان شيخ الأسرى الفلسطينيين، بما يحظى به في هذه الأيام القنطار من احتفاء إعلامي، وهو الذي قضى 27 عاماً في الأسر الإسرائيلي. في المقابلات القليلة معه في حينه، تحدث الفتحاوي أبو السكر عن ثقته طوال سنوات احتجازه بأنه سيخرج من المعتقل الذي أدخل إليه في 1975، بعد خبرة خاصّة وغير قصيرة في الحياة، مغايرة تماماً لما كان عليه حال القنطار، فقد أقام في أميركا بعد سنوات من معيشته في كولومبيا، والبرازيل وتجواله في إسبانيا، وبوليفيا ودول عربية، تزوج من كولومبية وأنجب منها أربعة أبناء، ثم تزوج من فلسطينية أنجب منها ولدين، وذلك كله قبل تنفيذه عملية فدائية قتل فيها 13 إسرائيلياً. خرج من السجن، ليرثه في لقب «مانديلا فلسطين» الأسير الصابر منذ 31 عاماً: سعيد العتبة، من كوادر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. يؤتى هنا على أبو السكر، في معرض الحديث عن إطلالات سمير القنطار التلفزيونية، للتأشير إلى غياب ذات كل منهما الفادح في أحاديثهما عن تجربتيهما في الأسر ،باعتبار أن لكل منهما خصوصية إنسانية وشخصية. لا شيء من هذا، إلا نزر يسير جداً، سمعناه من القنطار في حديثه مع عمرو ناصيف في تلفزيون المنار، ولا في مقابلته في «خليك في البيت» مع زاهي وهبي في «المستقبل»، ولا مع غسان بن جدّو في حلقتين في «الجزيرة»، تصادفت أولاها مع عيد ميلاد القنطار، وكان الظنّ أنها مناسبة قد تيسّر فرصة للتحدّث مع المحتفى به عن الحياة وتصاريفها، وعن مشاعره التي كانت تتناهبه في سنوات الاحتجاز الطويلة، بل في ساعات وأيام يكاد يستحيل عدّها، وعن آمال وأوجاع وأشواق وأحلام إنسان محروم من حريته الفردية، عن المرأة والجسد والشهوات والضعف البشري. لم يُؤت على هذا أبداً، وأفرط القنطار كثيراً في الحديث السياسي، والوطني، وفي مديح المقاومة، وخصوصاً الإسلامية اللبنانية، وفي التشديد على وجوب الاحتفاظ بسلاحها، وفي الحثّ على الوحدة الفلسطينية، وفي تأكيد استمراره في مقارعة العدو، وفي غير ذلك من مسائل تتصل بخيار كفاحي تعبوي، لا يرى صيغة أخرى في تدبير شؤون الحياة الخاصّة، وفي تسيير شؤون المجتمعات وقضايا الأوطان، سوى مقاومة إسرائيل، وكأن نهوض لبنان واللبنانيين، وفلسطين والفلسطينيين، منوط فقط بالانقطاع فقط للمواجهة المسلحة مع إسرائيل، التي ظل سمير القنطار يشير إلى هشاشتها وضعفها. لا يمتلك المنصت إلى هذا كله من الأسير المحرر الذي ظهر كثيراً مرتدياً بزة عسكرية غير أن يشيد بالهمّة الكفاحية التي يتمسك بها، وهو العائد إلى بلده، وكان قد توعده مناحيم بيغن بأن يذوق عذاباً مميتاً لا يعرفه الشيطان. عاد مهموماً بقضية فلسطين، ومتوعداً الإسرائيليين بالرجوع إليها. وإذا كان هذا الأمر يوجب تقدير القنطار من ملايين النظّارة العرب، فإنه أيضاً يحمل على السؤال ما إذا كان يتوسل زيادة جرعات غضب هؤلاء الملايين على سلطات بلادهم، وهو يتمنى على شاشة «الجزيرة» استهداف الحكام العرب، كما قضى أنور السادات اغتيالاً. يتحدث بهذه اللغة، من دون أن يحاول اختبار فكرة الاحتكام للاغتيال كوسيلة للتغيير، وللتعبير عن حنقٍ من خيارات معينة. وفي الحلقة الحوارية نفسها، يبدو غير حريص على نفي الاتهام الإسرائيلي له بأنه قتل طفلة في أثناء العملية الفدائية التي أسر بسببها في مدينة نهاريا، ينكر المسألة ويقول في الوقت نفسه إنه لا يعبأ بما يروجه الأعداء عنه، وهم الذين لا مدنيين بينهم، بحسب رأيه، ما قد يشيع أن الأسير المحرر لا يمانع في استهداف جميع الإسرائيليين، وأينما كانوا، فالمقاومة ستستمر إلى ما بعد مزارع شبعا، كما هتف في خطاب أمام محتفلين به. اعتبر سمير القنطار في حديثه لـ «المنار» تحوله من فتى علماني إلى صاحب خطاب تتخلله مفاهيم إسلامية دلالةَ نضج، وتهرّب من الإجابة عما إذا كان ملتزما بفروض الدين، وكان في وسع سائله أن يذهب معه إلى هذه المنطقة الخاصة في شخصيته، ذلك أن في الأفهام الشائعة أن وحشة السجن، والانصراف إلى الذات في أجواء الاعتقال الطويل تقود من يغالبها إلى مقادير من التديّن. لم يكن من شواغل الحوارات التلفزيونية مع القنطار الالتفات إلى مثل هذه التفاصيل الفردانية التي تخصه دون غيره، وإلى أحاسيسه الجوانية في محطات غير قليلة في سنوات أسره. لم يبدُ القنطار معنيّاً بالتأشير إلى شخصه كإنسان موجوع بفقد 29 عاماً من حياته، انشغل بالتأكيد على أن المقاومة الإسلامية خط أحمر، وشدد على ذلك في حديث لتلفزيون «روسيا اليوم» وفي حواره مع «الجزيرة». ورغم كلامه الكثير، عن السياسة والنضال، لا يكشف عن مشروعه الخاص على هذا الصعيد. وعن نيته الزواج، لا يستبعد ذلك، لكنّ أياً من محاوريه لم يسأله عما إذا كان تمنى الزواج من فتاة أحبها. ليست الرغبة في الاستماع إلى الأسير العائد يتحدث عن هذه الأمور من باب التطفل على شؤون شخصية، بل هي الرغبة في الاقتراب من ندوب السجن والاحتجاز، وما تخلّفه من تفاصيل على البدن والروح. تماماً كما هي الرغبة في الوقوف على ما أحدثته من آثار على تكوينه الذهني وتطور ذائقته، وتنوع أحاسيسه ومطالعاته في الأدب والفكر في السنوات الطويلة، وهو الذي حاز شهادة جامعية في العلوم الإنسانية والاجتماع من الجامعة الإسرائيلية المفتوحة. القنطار راقه نجيب محفوظ، ورشاد أبو شاور، ومكسيم غوركي، وتوفيق يوسف عواد وغيرهم، على ما قال في «المستقبل» في المحاورة الأكثر دفئاً، والتي تخفف فيها من البذلة العسكرية، وكانت على سطح منزل عائلته في بلدته في جبل لبنان. اقترب محاوره زاهي وهبي من تفاصيل تتعلق بشخصه، إلا أنه ظل يأخذ مشاهديه إلى فرحه بلقاء السيد حسن نصر الله، وإلى نضالات الأسرى والشهداء منهم. وإذ التهنئة واجبة لسمير القنطار على تحرره، وكذلك تقديره على روحه الجسورة، فالمأمول أن يقوم بتظهير تجربته الإنسانية الشخصية، الاستثنائية، بتدوين تفاصيلها الجارحة، ولو بالاستعانة بمن يعينه في الصياغة وتسجيل الذكريات. فلا تقتصر العبر من تلك الـ 29 عاماً على أوجه الكفاح والمواجهة ضد المحتلّين، بل لها أيضاً إشراقاتها التي يلزم أن يكون لها موقعها في المدوّنة الإنسانية على الأرض. من هذا المدخل، حقّق نيلسون مانديلا حضوره الذي يستحقه في العالم، وقد أشهر سنوات عذابه في السجن، بأنفاس شديدة الإنسانية، فيها إشعاع الذات بمقدار ما فيها من حضور للمجموع والأمة. ومع تباين الخصوصيات، فإن لكتاب اللبنانية المحررة سهى بشارة «مقاوِمة»، وصدر في 2000، خصوصيته وهو يضم شهادة حارّة لصاحبة تجربة في الأسر والتعذيب الإسرائيلي طالت عشر سنوات، قضت ستاً منها في زنزانة انفرادية. في هذا المقام، يحسن التنويه بإنجاز الشاعر الراحل محمد القيسي «الهواء المقنّع» عن 15 عاماً قضاها الفتحاوي، أبو علي شاهين، في الأسر، وصدر الكتاب في 1986، واستفاد من 15 شريط كاسيت سجلها القيسي مع شاهين. وعلى ما كتب المؤلف، فإن ما حفّزه على إنجاز هذه الوثيقة التاريخية والأدبية الرفيعة كتاب هشام شرابي «النضال الصامت..» الذي صدر في 1981 عن المناضل صالح برانسي الذي أسر سنوات طويلة. المأمول أن يبادر القنطار إلى توثيق ذاكرته وتدوين صموده وصبره، وهو الذي تنمّ رسائله التي بعثها إلى عائلته ومحبّيه وإلى شخصيات سياسية عن ملكة رائقة في التعبير عن الذات، ويعجب قارئ بعضها من أن القنطار يشير فيها إلى فيروز، وجبران خليل جبران، ووديع الصافي وهو يتحدث عن وطنه، ويشير أيضاً إلى مغالبة اللبنانيين العيش الصعب، وكان غياب مثل هذه الانتباهات ،شديد الفداحة في خمسة برامج تلفزيونية حوارية مطولة معه. الأمل باق في أن ينجو الأسير العائد من الاستغراق في موسم الاحتفاء به، فلا تخسر المدونة العربية فرصة نشر ما كانت عليه جوارح سمير القنطار طوال 29 عاماً مضت، كما البادي أن فرصة ضاعت بشأن سلفه الفلسطيني أحمد أبو السكر، والآمال باقية دائماً بأن يكون لملحمة صمود عشرات الآلاف من الأسرى المحررين والمفرج عنهم، والذين ينتظرون، موقعها في كتابات الألم الإنساني الخالد. |
|
|||||||||||||