العدد 36 - ثقافي
 

جهاد هديب

لعل أبرز ما يميز إبداع أمين صالح هو تهشيم الحدود الراسخة بين الأنواع الأدبية، وحظوة شعرية تعلي من شأن السرد في دفق من المشاعر الإنسانية الدافئة والشفافة.

ولد أمين صالح العام 1949في البحرين. ومن مؤلفاته: ندماء المرفأ، ندماء الريح والعناصر والجواشن ـ نص ـ مشترك مع قاسم حداد وترنيمة الغرفة الكونية ومدائح وموت طفيف ورهائن الغيب (رواية) والمنازل التي أبحرت أيضاً (نصوص).

يزور الكاتب البحريني عمان مشاركا في فعاليات معرض عمان الدولي الثاني عشر للكتاب حيث قدم شهادة في تجربته مع الكتابة. ما يلي حوار معه:

القصدية لديك في تحطيم الحدود الراسخة بين الأنواع الأدبية، هل ستفضي إلى نوع أدبي آخر؟.

- ليس الأمر هكذا تماما، فهي ليست قصدية آلية. لقد قصدت أن ينفتح الكاتب على الأشكال الأدبية كاسرا حدود السرد التقليدي، دون تقصد الوصول إلى شكل آخر. مثلا، في أثناء الكتابة قد تلمع ومضات شعرية أو تشكيلية أو صورة سينمائية، لا أستبعدها بل أنفتح على كل الأشكال الأدبية التي ترد إليّ: الذاكرة والخيال والوعي واللاوعي .. أرى أن على الكاتب أن يكون مرنا ومنفتحا. وأساسا، أعتقد أن الكاتب لا يدري بالضبط ما هي المحصلة النهائية لما يكتبه بل يأتي ذلك في ما بعد، فلماذا يقمع نفسه. الحرية ثمينة للكاتب والمعايير المسبقة للنوع تنافي طبيعة الكتابة ،وتنفي حرية الكاتب، وهذا هو المعيار.

كتابك "موت طفيف" وتبعا لما جاء عليه الشكل و لما تُكتب عليه قصيدة النثر في أغلب ثقافات العالم راهنا، هو قصيدة نثر بامتياز فما تعليقك..

- قلت إن الكتابة أمر معقد ومركب، بحيث أنه من غير الممكن تفسير أو توضيح ما يفعله الكاتب في لحظة الكتابة، ولم يكتب بهذه الطريقة وليس بتلك، ولم يظهر العمل لاحقا على هذا النحو وليس ذاك. هذا أمر غامض يحتاج إلى ناقد متبصر كي يضيء لي أنا هذا الأمر.

ما من شيء هنا نتاج وعي راسخ أو منطق مسبق ، بل هو الغموض ما يفضي إلى أن تكون الكتابة هنا قصة وقصيدة هناك وهايكو في مكان آخر. أظن أن المرء عندما يكتب انطلاقا من صورة شعرية أو فكرة أو من باعث غامض فإنه لا يدري إلى أين يتجه، ولأن الكتابة تنتسب إلى فترة كتابتها فإنني أجد صعوبة في استحضار تلك الفترة التي كتبت فيها: "موت طفيف"، لإعطاء جواب مقنع عن هذا الأمر.

أحيانا، وفيما أراجع نصوصا كتبتها، أعثر على صور أو شخوص وردت في نصوص سابقة عليها، وأحب ذلك ولا أحاذر منه، لأن من الجيد أن تتكرر الحالات حتى لكأنك تبني حالة من زمان فيما العالم يتشكل دون أن ينتهي.

فأدى هذا الأمر إلى التباس في الشكل. يحتار الكثير من النقاد في تصنيف كتابتي، وهذه الحيرة نابعة من التزام النقد بتصورات مسبقة عن الشكل الأدبي، ومحاولة جرّ ما أكتب باتجاه هذا الشكل أو ذاك بهدف استيعابه وهضمه .. البعض يقول هذا ليس بقصة أو خاطرة أو قصيدة.

لماذا هذه الضرورة القصوى للنوع؟. لِمَ لا نشعر بالنص بوصفه كائنا وتجربة ونعيش معه؟. لم يسبق التصنيف كل ما عداه؟. هذا الأمر متروك للناقد، لكن الناقد في الغالب يتشبث بالقشور ويترك الجوهر. مع كتابي الأخير: "والمنازل التي أبحرت أيضا"، لم أقم بتحديده كرواية، الناشر لاعتبارات تخصه قام بذلك، فجرت قراءتها كرواية ورُفضت من قبل البعض على أنها كذلك لأنها جاءت على غير ما اعتاد القارىء أن تكون الرواية. لقد أصبح النوع مشكلة النص، ولم يُقرأ بشكل جيد لغياب الناقد الحقيقي الذي بوسعه أن يتعامل مع نص جديد بأدوات نقدية جديدة، وفهم مغاير لما هو سائد. غياب هذا النوع من النقد يجعل القراءة قائمة على ما هو غير جوهري بالنسبة لفعل الكتابة.

إذاً أنت لم تقرأ متابعات نقدية حتى الآن؟.

- ليس تماما، هناك قراءات استفدت منها، بل هناك اهتمام نقدي إلى حدّ ما، لكن هناك غياب للقراءة العميقة التي تكشف أشياء لي وتضيء أخرى باستثناءات نادرة .. هناك جلسات شفاهية مع صديق أو قارىء صديق ومكاشفات تسرني جدا، لكن النقد الحقيقي والدراسة والتحليل والغوص الكلي في العوالم أمر نادر.

لا أعتقد أن هذا الأمر ينطبق عليّ وحدي، بل هناك الكثير من أمثالي من الأدباء العرب الذين لم يُقرأوا بعد. تأمل الوضع الثقافي العربي من حولك، ستجد أن هناك نقصا شديدا في ممارسة النقد الحقيقي ،الذي يستوعب النص الجديد والقادر على تجاوز مرجعيات محددة. إن ما يكتب غالبا هو "مقالات نقدية" حول أسماء مكرسة في الثقافة العربية وحول عمومياتها، وهي ليست بعميقة نسبياً، فما بالك بالنسبة للأسماء التي ما زالت هامشية في هذه الثقافة، رغم مرور كل هذا الزمن الطويل حتى باتوا جزرا معزولة ومجهولة لم يطرقها أحد. إنه أمر يقود إلى اليأس، لذلك لا أفكر فيه ولا أنتظر ناقدا يتناول عملي الأدبي على نحو مختلف بل لقد تشكلت لدينا حصانة ضد الاستسلام، فماذا سنفعل إن لم نكتب؟!.

أضف إلى ذلك أن هناك حصاراً رهيباً مفروضاً على النص الجديد من قبل القارىء.

من جهة أخرى، إن مشكلة النقد هذه مشكلة عالمية ولا تخص الثقافة العربية وحدها، الثقافة الغربية تعاني أيضا.

في هذا السياق من الحديث عن القراءة والكتابة، هل هناك ما تندم عليه؟.

- أعتقد أنني في كل مرة أكتب فيها ، أندم لاكتشافي حماقة ما أو شيئاً كان ينبغي عليّ أن لا أفعله، وهذا يخص نشر تجارب أظن أنها غير مكتملة، لذلك أخاف دائما مما كتبت؛ أخاف أن أعود إليه وأحلله .. وأخاف من اكتشافي أخطائي، أخاف من الشعور بالنقص بسبب الشوائب التي في النص والتي كان من الممكن أن لا تكون مع القليل من الصبر، فالنص في داخلك ليس كما هوعلى الورق، فقد انتظرت شيئا ما في داخلي لكنه أقل مما خرج.

يقول المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني: فكرة الجسد أجمل من الجسد. وبالفعل فإن العمل قبل تحققه أجمل، وبعد تحققه، قد تشعر بارتياح للحظة، ولكن بعد قليل وعندما تتأمل قليلا فقط سوف تجد أن ما على الورق ليس بالمستوى الذي بلغه ذلك النص الذي كان كامنا فيك .. دائما أندم، وأظن أنني إن شعرت بالرضا الكامل سوف أنتهي بل أموت أو أنتهي أو أقلها أصاب بشلل ما، لذلك لا بدّ من إعادة النظر بالأشياء باستمرار.

الكاتب البحريني أمين صالح: دائماً يساورني ندم وإن شعرت بالرضا قد أموت
 
24-Jul-2008
 
العدد 36