العدد 36 - دولي
 

صلاح حزين

بعد اثني عشر عاما من التخفي والتنقل المستمر من مكان إلى مكان في العاصمة الصربية بلغراد، ألقي القبض على رادوفان كاراجيتش، المتهم بالتسبب في مقتل مئات آلاف المسلمين البوسنيين بين عامي 1992 و1996.

وعلى الرغم من أن هنالك أمرا بالقبض على كاراجيتش صادرا عن محكمة الجنايات الدولية في لاهاي منذ زمن، فإن من قبض عليه هم رجال الأمن الصرب الذين تعقبوا شخصا مريبا بلحية كثة وشعر كثيف يرتدي نظار طبية ويعمل في مجال الطب البديل في أحد ضواحي العاصمة الصربية، فلم يكن هذا الشخص سوى رادوفان كاراجيتش المتهم بقضايا تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية وغير ذلك من الجرائم المروعة التي ارتكبها هذا الشخص الذي كان طبيبا نفسيا لفريق ساراييفو لكرة القدم في السبعينيات، مثلما كان شاعرا متواضع القيمة.

كاراجيتش، الذي كان رئيسا لجمهورية صرب البوسنة وقائدا عسكريا لها بين عامي 1991 و1996، اختفى في العام 1998 بعد أعوام من تدخل قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتطبيق معاهد دايتون التي وضعت خطة للحل في منطقة البلقان التي كانت تفجرت بعد انهيار اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية مع بداية التسعينيات من القرن الماضي.

وكانت عمليات الانهيار بدأت مع إعلان جمهورية سلوفينيا، وهي إحدى الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة استقلالها، لتتبعها بعد ذلك جمهوريات كرواتيا والبوسنة والهرسك، ولم تبق في الاتحاد سوى جمهوريتي صربيا والجبل الأسود، وبدأت بعد ذلك سلسلة من الحروب المدمرة بين الجمهوريات الاشتراكية السابقة، اقتتل فيها الكروات مع البوسنيين والصرب مع كليهما، إلى أن أعلنت جمهورية البوسنة والهرسك استقلالها فتوقف الاقتتال مع الكروات، ولكنه بدأ مع الأقلية الصربية التي كانت تقيم في جمهورية البوسنة، والتي كانت أعلنت تمردها على الجمهورية الجديدة وأعلنت قيام جمهورية صرب البوسنة برئاسة رادوفان كارجيتش الذي تولى أيضا منصب القائد الأعلى للجيش. وبالتعاون مع صنوه في عالم التطهير العرقي، قائد جيش صرب البوسنة، راتكو ملاديتش، ارتكبت أكبر الفضائع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

من أكثر الفصول التي ارتكبها كارادجيتش وملادتش دموية هو حصار قوات صرب البوسنة لمدينة سيراييفو، عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك والذي استمر بين 1992 و1996، حيث لم تسمح القوات المحاصرة سوى بأقل القليل من المواد الغذائية والمياه بالوصول إلى العاصمة طوال أربع سنوات تقريبا، ما جعل الحياة في تلك المدينة التي قضى فيها كاراجيتش سنوات شبابه، مغامرة محفوفة بالمخاطر.

لكن أبشع الجرائم التي نسبت إلى كاراجيتش هي مذبحة سربرينيتشا التي راح ضحيتها أكثر من ثمانية آلاف بوسني، وغالبيتهم من المسلمين، دفن معظمهم في قبور جماعية ما زالت حتى اليوم تفتح لاستخراج الجثث للتعرف على أصحابها لإعادة دفنهم مع عائلاتهم.

عمليات التطهير العرقي والقتل الجماعي التي ارتكبها كاراجيتش وملادتيش استمرت نحو أربعة أعوام، وكانت ترتكب بمساعدة رئيس صربيا الأسبق سلوبودان ميلوشيفتش الذي كان يقدم المساعدات بزعم مساعدة الأقلية الصربية التي كانت تعيش في جمهورية البوسنة والهرسك، والتي كانت أعترفت الأمم المتحدة باستقلالها عام 1992، وهو العام نفسه الذي أعلن كاراجيتش فيه استقلال جمهورية صرب البوسنة والعام نفسه الذي بدأت فيه أكثر المعارك دموية في تلك المنطقة المضطربة.

بعد انتهاء الحرب في مطلع العام 1996، كان عدد يقدر ما بين مئة ألف و300 ألف شخص قد قتلوا، ونحو 1.8 مليون شخص قد هجروا في عمليات تطهير عرقي بشعة أثارة استنكار العالم أجمع، وقد شكلت هذه الجرائم التي كان عدد منها موثقا بالصورة أساس مذكرة الإحضار التي أصدرتها محكمة الجرائم الدولية في لاهاي بحق كاراجيتش وملادتيش، والأخير ما زال طليقا حتى الآن على أي حال. بعد ذلك بعامين بدأت الدائرة تضيق على كاراجيتش فبدأ رحلة التخفي والهرب التي استمرت نحو اثني عشر عاما وانتهت بالقبض عليه على الصورة المزرية التي ظهر بها أخيرا.

وفقا لمصادر متطابقة، كان كاراجيتش يتنقل بحرية في العاصمة الصربية بلغراد، لكن شيئا تغير قبل شهرين، فقد أجريت انتخابات تشريعية فاز فيها في صورة مفاجئة حزب المعارضة المؤيد للغرب بقيادة بوريس تاديتش، ومع تسلم المعارضة الحكم بدأت عملية تغييرات شملت مناصب عليا في جهاز الأمن الداخلي وهو الجهاز الذي قبض رجاله على كاراجيتش. وقد أعرب كثيرون عن أن التطورات الأخيرة كانت حاسمة بالنسبة للقبض على الزعيم الصربي المتشدد، فقد كانت أجهزة الشرطة السابقة لا تبدي الكثير من الجدية في عملية البحث عن المجرم الهارب. ولكن الأمر أصبح أكثر جدية مع وصول المعارضة إلى الحكم.

خبر القبض على كاراجيتش ووجه بمظاهرات مؤيدة له ومعادية للولايات المتحدة الأميركية في بلغراد ومدن صربية أخرى ما زالت تعتبره "بطلا"، في مقابل مظاهرات فرح خرجت في العاصمة البوسنية سيراييفو التي عانت الكثير على يديه.

لم يسلم كاراجيتش للمحكمة الدولية بعد، فهنالك إجراءات روتينية تحول دون سرعة الإنجاز في هذا المجال، ولكنه سوف يسلم قريبا إلى محكمة الجرائم الدولية التي وصفته بأنه "خطط لمشاهد من الجحيم، كتبت على أكثر الصفحات سوادا في التاريخ البشري."

رجل التطهير العرقي يواجه محكمة الجرائم الدولية
 
24-Jul-2008
 
العدد 36