العدد 36 - أردني | ||||||||||||||
السّجل - خاص منذ تأسيسها في العام 1976 و"الثقافة" وزارة في مهب الريح، تتقاذفها الحكومات أنّى شاءت، وتُغيّر في اسمِها كيفما ارتأت، وتُلحقها بوزارات أخرى بوصفها تابعاً لها، أو أقلّه تدمجها معها، بل وصل الأمر بحكومة الفايز، أن ألغت هذه الوزارة، واعدة بـ"مجلس أعلى للثقافة والفنون" بديلاً عنها، لكن تلك الحكومة عادت فأحيتها مرة أخرى وسلمت حقيبتها لأسمى خضر. ومثلما هي "الثقافة" ضحية نظرة استخفاف بها، من قِبل أصحاب "الدولة"، فهي ضحية الاجتهادات حول رسالتها وحول الدور المطلوب منها من قِبل أصحاب "المعالي" الذين توالوا عليها، ومنهم من قبل حقيبتها على مضض. وإذا كان التندّر على وزير أسبق للثقافة فكّر بدعوة بيكاسو لإقامة معرض بعمّان، فيه بعضُ الوجاهة، فما الذي يشفع لأحد الذين تولوا هذه الحقيبة "المسكينة" في وقت لاحق فيما هو يطلب من كبار موظفيه مساعدته لاختيار رئيس تحرير لـ"حاتم"، وهي المجلة التي تصدر عن صحيفة "الرأي"، ولا صلة لـ"الثقافة" بها من قريب أو بعيد. النظرة المستخفّة لم تقتصر على تعاطي الحكومات مع وزارة الثقافة، إنما انسحبت على البيانات الوزارية في الرد على كتب التكليف الملكية، إذ تحظى "الثقافة" برمّتها بسطر واحد أو سطرين على أحسن تقدير في البيان، من باب رفع العتب لا أكثر. بل إنها في حكومة نادر الذهبي غابت تماماً عن البيان الوزاري، ما دفع مثقفين وهيئات ثقافية إلى استنكار هذا التجاهل الذي رأوا فيه سلوكاً مقصوداً لا ينسجم مع التوجيهات الملكية، مستذكرين مبادرات الملك ذات الصلة بالشأن الثقافي، وأبرزها استضافته عدداً من الشخصيات الثقافية في الديوان الملكي في العام 2006، وتداوله معهم في قضاياهم المختلفة، واستجابته الفورية لعدد من مطالبهم، وإعلانه التبرع بعشرة ملايين دينار لغاية إنشاء دارة عبد الله الثاني للثقافة والفنون، وإنشاء صندوق لدعم الثقافة. وإزاء موجة الاستنكار هذه لم يجد رئيس الحكومة بدّاً من توضيح أن الثقافة لم تغب عن البيان، وأنها كانت حاضرة بصورة أو بأخرى باعتبارها تتقاطع مع مجالات أخرى. وكانت "الثقافة" حظيت بأول كيان إداري لها عندما تقرر تأسيس دائرة الثقافة والفنون في العام 1964. يروي الأمين العام المساعد بوزارة الثقافة باسم الزعبي عن صلاح أبو زيد، حكاية إنشاء وزارة الثقافة، فإثر الزيارة التاريخية الأولى للملك الحسين إلى الاتحاد السوفييتي تم توقيع أول اتفاقية ثقافية مع دولة أخرى، ولم تكن هناك وزارة ثقافة في الأردن، وكان أبو زيد حينها وزيراً للإعلام، فجرى حديث بين الملك وبينه حول أن الوضع الجديد يفترض وجود وزارة ثقافة، فقرر الملك حينها إجراء تعديل وزاري، وتم إلحاق دائرة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام وإعادة تسميتها "وزارة الثقافة والإعلام". في العام 1976، عقد أول اجتماع لوزراء الثقافة العرب في عمّان، وكان من أهم توصياته إيجاد وزارات للثقافة في كل الدول العربية. وظلت وزارة الثقافة ترتبط بوزارات أخرى مثل: الإعلام، والسياحة، والشباب، حتى العام 1988، حيث صدر أول نظام تنظيم إداري خاص بوزارة الثقافة، وتولى حقيبتها حينئذ محمد الحموري، القادم من حقل القانون، فاستفادت الوزارة من مرحلته التي شهدت وضع تشريعات جديدة وتعديلات أخرى قائمة ذات صلة بالعمل الثقافي، وهو الوزير الذي أصرّ على ربط دائرة الآثار بوزارة الثقافة، لأن الآثار من وجهة نظرة تعدّ ثروة ثقافية قومية قبل أن تكون سلعة سياحية. وفي عهد الحموري صدر قانون الآثار العامة عن "وزارة الثقافة والتراث القومي". وكانت نقطة التحول في مسيرة الوزارة تكليف خالد الكركي بتولي حقيبتها في أول حكومة تتشكل في حقبة الانفراج الديمقراطي بعد انتهاء مرحلة الأحكام العرفية 1989، ونُظر إلى هذا التكليف على أنه تعبير عن رغبة السلطة في إعادة الاعتبار للثقافة، وإعلاء شأنها في حياة المجتمع، إضافة إلى تقدير دور رابطة الكتاب الأردنيين التي كانت أُغلقت بالشمع الأحمر منتصف الثمانينيات بقرار عرفي، وكان الكركي يتولى رئاستها حينئذ. كان هذا الاتجاه مدعاةً ليتبنى الكركي شعار "سلطة الثقافة لا ثقافة السلطة" رغم إشكاليته وعدم حسم الجدل حوله تاريخياً. شهدت مرحلة الكركي، وفقاً لباسم الزعبي، فتح مديريات ثقافة في المحافظات، وبلورة دور واضح للوزارة تجاه الهيئات الثقافية التي ازداد عددها بشكل كبير خلال فترة قياسية مستفيدة من أجواء التحول الديمقراطي. وطالب الكركي باستبعاد الهيئات التي لا تحمل صفة ثقافية من إشراف الوزارة، إذ كان يجري تسجيل الهيئات وفقاً لقانون الجمعيات والهيئات الاجتماعية رقم 33 لسنة 1966. وفي الوقت نفسه دعا الوزير لاستعادة الإشراف على هيئات ذات طابع ثقافي كانت مسجلة في وزارات أخرى. نشطت الوزارة في السنوات اللاحقة بالتدريج، لجهة تقديم الدعم والرعاية للهيئات الثقافية، وبدأت مشروعاً لإحياء التراث الثقافي لرواد الحركة الثقافية والفنية، كما عملت على تأسيس عدد من المهرجانات المسرحية. وتم احتضان المؤتمر الثامن عشر للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، واستضافة مقر الأمانة العامة في عمّان، وذلك بعد انتخاب فخري قعوار، وكان يرأس رابطة الكتاب الأردنيين، أميناً عاماً للاتحاد. كانت التسعينيات عموماً عقدَ خير بشّر بالكثير على صعيد الحراك الثقافي، وعُقدت العديد من المؤتمرات وأقيمت فعاليات بمشاركة عربية واسعة، ورافق ذلك تطور في الصحافة الثقافية، وفي الإعلام الثقافي عموماً، بل إن التلفزيون الأردني بدأ يخصص حيزاً معقولاً للبرامج الثقافية في دوراته البرامجية. لاحقاً جاء وزراء إلى "الثقافة" بعقلية "عرفية" دفعت أحدهم إلى إصدار بلاغ يلزم الهيئات الثقافية بأخذ موافقة الوزارة المسبقة على إقامة الأنشطة الثقافية، ومنع أي "نشاط سياسي" لهذه الهيئات. وسرعان ما ألغي هذا البلاغ الذي بدا في صيغته منتمياً إلى حقبة لا يرغب أحد في العودة إليها. وفي ظل عدم تأطير مشروع واضح المعالم لدور وزارة الثقافة ورسالتها، وفي غياب الأدبيات الضرورية لذلك، كان من الطبيعي أن تظل الوزارة أسيرة الشعارات التي يطلقها وزراء تعاقبوا عليها في التنظير لدورها، منطلقاً كل منهم من فهمه الخاص أو نظرته المحكومة لاعتبارات تفتقر في الغالب إلى النظرةالشمولية، وتقترب من الاجتهاد والرأي الشخصي. ومما واجه الوزارةَ في تاريخ نضالها ومحاولتها الصمودَ أمام الدعوات لإلغائها أو الاستغناء عنها، أن الثقافة عموماً ظلت أسيرة الفهم القاصر تجاهها بأنها نشاط ترفيهي يتبادر إلى الذهن عند ذكرها نخبةٌ معزولة من "الأُدُباتية" الذين ينتجون شعراً أو قصصاً أو روايات، أو فنانون "يخربشون" بألوانهم على اللوحة، أو فرق دبكة فولكلورية.. الأمر الذي قاد إلى غياب أي اشتغال حقيقي على مشاريع "التنمية الثقافية"، يمكن أن يجعل المتلقي على علاقة وثيقة بالمنتج الثقافي وبالتالي يعيد نظرته "المتْحفية" إزاء الثقافة. يضاف إلى ذلك أن ميزانية "الثقافة"، ظلت طيلة سنوات طويلة، متواضعة عموماً وغالباً، وهناك أحاديث عن أن جزءاً منها يُصرف على برامج محسوبة على "الثقافة" وهي منها براء. هذا ما جعل دور الوزارة يقتصر تاريخياً على الرعاية والدعم، قانعةً أنها لا تُنتج الثقافة، فالثقافة ينتجها المثقفون لا الوزارات. لكن الدور السابق عانى هو الآخر من مزاجية المسؤولين وخضوعه للتقدير الذاتي لكل منهم، فما يراه أحدهم مشروعاً نوعياً يحتاج إلى الدعم كله، يراه آخر غير ذي فائدة، فيحجب الدعم عنه، في ظل غياب حقيقي للعمل التراكمي، ما أدى بالنتيجة إلى مراوحةٍ في المكان، وتفاوتٍ لا يمكن إخضاعه إلى أي مقياس منطقي للإنجاز. ورغم عمر الوزارات القصير نسبياً في الأردن، إلا أن غياب المأسسة يبدو السمة الأبرز في وزارة الثقافة، يُضاف إليه غياب استراتيجية وطنية للعمل الثقافي. لكن التحدي الأبرز الذي واجه الوزارة فعلاً هو قرار إلغائها متمثلاً في غيابها عن تشكيلة حكومة فيصل الفايز، وهو قرار وُوجه في البداية باستنكارٍ شديد من مثقفين وهيئات ثقافية، وتحولت الصحافة الثقافية إلى ساحة وغى في تناول الموضوع، رغم تطمينات الفايز وتأكيداته أن النية تتجه إلى إنشاء مجلس أعلى للثقافة والفنون، لكن كثيراً من المثقفين والمعنيين بالشأن الثقافي اقترحوا الاستفادة من التجربة المصرية في هذا المجال، أي أن يكون هناك وزارة ومجلس أعلى معاً. المجلس يرسم الاستراتيجيات ويكون دوره استشارياً، والوزارة تقوم بتنفيذ المشاريع والإشراف عليها. وعُقد المؤتمر الوطني الثقافي الأول برئاسة ناصر الدين الأسد في مطلع حزيران 2004، بمشاركة واسعة من هيئات ثقافية ومثقفين وعاملين في الإدارة الثقافية، وكان برعاية ملكية، وبدعم مباشر وتمويل من الفايز الذي حضر افتتاحه. وتمخض عن المؤتمر 45 توصية من أبرزها إعادة الوزارة، وهو ما حدث لاحقاً، بموازاة تشكيل مجلس تأسيسي للمجلس الأعلى ترأسه الشريف فواز شرف وأُسندت إليه مهمة إعداد مشروع قانون خاص بالمجلس الأعلى سُلّم للحكومة وتم تجاهله نهائياً. يتفق كثير من المعنيين بالشأن الثقافي أن مرحلة الوزيرة أسمى خضر من أكثر المراحل "بؤساً" في تاريخ الوزارة، رغم ما بدا من دينامية اتسمت بها، حتى إن خليفتها أمين محمود كرّس مرحلته لـ"إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، وأوقف عدداً من المشاريع التي كلفت أو كانت ستكلّف الخزينة كثيراً، مثل مشروع المؤتمر الثقافي الدولي الذي ألغى محمود دور الوزارة فيه. كانت خضر نادراً ما تظهر في الوزارة، أو تمارس عملها فيها، بحكم كونها ناطقاً رسمياً باسم الحكومة. وكانت حين تلتقي بلجنة التخطيط بالوزارة تلقي ما يشبه الخطاب وتغادر. وعدّت خضر بعض الإجراءات الطبيعية فساداً، خصوصاً في العمل المسرحي، إذ كان من المتعارف عليه أن يتلقى المخرج قيمة الدعم المخصص لمسرحيته من الوزارة باسمه، ثم يتولى هو توزيع المكافآت على فريق العمل، لكن خضر رأت في ذلك فساداً. وأعادت مكافآت المياومة والسفر من عدد من الموظفين، رغم أحقيتهم بها. وشكلت حولها فريقاً استشارياً لم يتمخض عنه شيء، في الوقت الذي كلفت فيه شخصية لا علاقة لها بالمشهد الثقافي ولا معرفة لها بوزارة الثقافة لإجراء دراسة لتفعيل الوزارة، مقابل مكافأة مجزية جداً. في مرحلة عادل الطويسي بدأت الأمور تعود إلى نصابها بالتدريج، لتنطلق "خطة التنمية الثقافية" بمشاريعها النوعية، وكان الطويسي أفاد من إقرار عدد من القوانين ذات الصلة بالشأن الثقافي في مرحلته، بعد مرورها بالخطوات التشريعية اللازمة. كما أنه أحد وزراء الثقافة القلائل الذين فطنوا إلى أن وزارة الثقافة ركن أساسي في لجنة التوجيه الوطني، فنظّر لهذا الجانب، رابطاً ذلك بنوعية المشاريع التي تبنتها الوزارة بإشرافه والدور المأمول منها. اليوم، ورغم كل ما أُنجز، إلا أن "الثقافة" ما زالت وزارة في مهب الريح.. وإذا لم تضعها الحكومات على سلّم أولوياتها، وتأخذها مأخذ الجد، فمن يدري، ربما يأتي يومٌ يشكل فيه رئيس حكومةٍ مقبلة حكومته، دون أن يسند حقيبة "الثقافة" لأحد، لا لأنه يفكر باستبدال شكل آخر بها (كالمجلس الأعلى)، ولكن لأنه نسيها لا أكثر!. |
|
|||||||||||||