العدد 6 - اقليمي | ||||||||||||||
ليست الدول العربية على صعيد تحقّق الحالة الحزبية فيها على حال واحد، من حيث اتساعها أو خفوتها، ومن حيث مقادير فاعليتها وحضورها. وإذا كان سهلاً القول الشائع والصحيح عن عزوف بيّن في غير بلد، في العقدين الأخيرين خصوصاً، عن الانتساب إلى الأحزاب من جانب الجمهور العام، وعن قلة الجاذبيّة التي تتوفر عليها الأحزاب العربية وتغري بتبنّي خياراتها والإنضواء فيها. إذا كان ذلك صحيحاً، فإن «ساحات» عربية ما زال للأحزاب فيها، على تنويعاتها، حضور حاسم في المواسم الانتخابية، ومن ذلك أن فرص غير المنتسبين لأحزاب ظاهرة وقائمة في الفوز بمقاعد في البرلمانات أو المجالس البلدية والمحلية تكون أضعف من التي لمن ترشحهم تنظيماتهم. وفي وسع المراقب أن يعاين الأمر في اليمن والجزائر وموريتانيا مثلاً، وفي مصر أيضا إذا سلّمنا أن جماعة الإخوان المسلمين تنظيم قوي وعريض في موقع المنافسة أمام الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. في المشهد العربي العام والموصوف هنا باستعجال، تتبدى التجربة الحزبية في المغرب غنيّة بمعطيات تيسر لدارسها مؤشرات لها إفادتها في التحليل السياسي، والاجتماعي أيضا. أولها أن الوظيفة النضالية في زمن الاستعمار الفرنسي كانت مركزية في الأحزاب الأولى، وأهمها حزب الاستقلال. وأن الأحزاب التي قامت منذ أواسط الخمسينيات، حتى باتت 34 حزباً، تناسلت أساساً من بعضها، أو للتحرز، تناسل أغلبها من أحزاب قائمة، وقوية أحياناً. وأن الحكومات في المغرب ظلت دائماً ذات تلوينات حزبية، وأن اليسار المعارض كان له مطرحه فيها في محطة مبكرة، فقد تولى الراحل قبل نحو عامين زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عبد الله إبراهيم رئاسة الحكومة في 1958، وكان أول رئيس وزراء في المغرب من حزب سياسي، إلى أن صار اليساري العتيق أيضا، الكاتب الأول (الأمين العام) لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أول (رئيس الوزراء) في 1998، وسميت حكومته حكومة التناوب، فتولت المعارضة الحكم بعد طول زمن استأثرت فيه أحزاب موصوفة بموالاة السلطة التنفيذية. تربّع حزب الاتحاد الاشتراكي، وهو موضوع هذه السطور، طويلاً في ضفة المعارضة، وشاركه فيها وإن بتقطع قصير حزب الاستقلال، وقد شكّلا الرافعة الأهم لثقافة المعارضة السياسية المعتدلة في المغرب، التي لا تنحو إلى مناوأة النظام السياسي كيفما اتفق، إذ ظلا ينشطان باتجاه إصلاح النظام، بالتقليل مثلاً من صلاحيات الملك وتوسيعها لدى رئاسة الحكومة، وغير ذلك من تفاصيل تعزز المسار الديمقراطي والمدني الحديث، مع ميل لدى حزب الاستقلال الى المحافظة والتقليدية في بعض المحطات، وإن لزم التأشير إلى أن أحزاباً «أكثر يسارية» أو أكثر تشدداً وتطرفاً على الأصح، ظلت حاضرة في النقاش والنضال السياسي، وتعرضت لضربات أمنية ليست هيّنة، لم ينج منها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نفسه في غير مناسبة، وخصوصاً في السبعينيات بعيد محاولتي الانقلاب على الملك الحسن الثاني، وبدرجة أقل في الثمانينيات. أعلن الحزب عن نفسه في 1972بزعامة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد خارجاً، أو منشقاً حسب التوصيف المشرقي الأثير، من ( أو عن ) حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة عبد الله إبراهيم الذي كان قد انسلخ في 1958 عن حزب الاستقلال!. وخرجت لاحقاً تشكيلات سياسية منه صارت أحزاباً، ففي 1982 تولد عنه حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي بزعامة عبد الرحمن بنعمرو، وفي 2001 ظهر منه حزب المؤتمر الوطني الاتحادي بزعامة عبد المجيد بوزوبع، وفي 2006 خرج عنه عبد الكريم بن عتيق بحزب العمل. وبذلك يكون الحزب المغربي العتيد، ذو الزعامات السياسية صاحبة التجارب المتمرسة، قد أصابته انشقاقات كما أصابت غيره من أحزاب أخرى على اليمين واليسار. واستجدّ مطلع الشهر الحالي أن المكتب السياسي فيه طلب من زعيمه محمد اليازغي التنحّي عن موقع الكاتب الأول (الأمين العام)، أي أن يغادر قيادة الحزب. وذلك من تداعيات إخفاق شديد في انتخابات 7 أيلول/سبتمبر الماضي، الأمر الذي لم يأخذه إلى خيار عدم المشاركة في ائتلاف الحكومة المغربية الراهنة التي يرأسها الكاتب الأول (الأمين العام) لحزب الاستقلال عباس الفاسي، ويتولى فيها اليازغي منصب نائب رئيس الحكومة وزير دولة. يجري الحديث هنا عن حزب مغربي عريق، مناضل، كانت له جولاته في النضال السياسي الإصلاحي، الديمقراطي والسلمي، تعرضت قواعده وزعاماته في مراحل سابقة إلى تهميش واعتقال واضطهاد، خاض في الحقل الثقافي والاجتماعي طويلاً، وانتسبت إليه كفاءات فكرية ونقدية وتربوية لها منجزاتها، منهم المفكر محمد عابد الجابري والناقد محمد برادة. وقد زاوج بين المرجعيات الاشتراكية والأخذ بالممارسة الديمقراطية والانفتاح الخلاق، حارب التطرف ومظاهر التكفير، نجح في المواءمة بين خيارات تبدو أحياناً معقدة، وانخرط في العمل المدني والنقابي والأهلي، وكان لنخب فيه أدوار قيادية في نقابات الصحافة والمحاماة وغيرهما، وفي تشكيلات الأساتذة الجامعيين وهيئات العاملين في المسرح والفنون، ناهيك عن دوره الجوهري في تمتين وتقوية اتحاد كتاب المغرب. وكان من نخبه من كان سفيراً وموظفاً رفيعاً في الدولة، وعمن تعرض للسجن ومنهم وزير الثقافة السابق الشاعر محمد الأشعري. إن حزباً له هذا المسار وهذا الدور الحيوي في بلاده، ويضم عشرات الآلاف من الكوادر (يسميهم مناضلين) يكون متوقعاً أن يعرف اهتزازات واختلافات وانشقاقات، كالتي عرفها، وأن يرمى نقاد وخصوم له قيادات وفاعلين فيه باتهامات تجوز أحياناً ولا تجوز في أخرى، مثل الانتهازية والوصولية والركض وراء الامتيازات الخاصة والفساد، طالما أن رجالات كثيرة فيه تولت وزارات ومسؤوليات رفيعة في البلديات والمجالس المحلية والمنظمات الحقوقية وغير ذلك من مؤسسات تنتسب إلى العمل الحكومي أو الأهلي. وقد حاز في انتخابات 2002 على 50 مقعدا في مجلس النواب، وشارك في الحكومة عقب ذلك، وآثر في الأثناء زعيمه عبد الرحمن اليوسفي الاعتزال والاستقالة، وهو الذي غادر قيادة الحزب في 1993 احتجاجاً على ما اعتبر في حينه تزويراً فادحاً في الانتخابات، وعاد إلى بلده ليتولى رئاسة الحكومة في 1998، وفي الأثناء يقوم بدوره المسؤول كرجل دولة في تهيئة السلطة للملك محمد السادس بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني. حتى إذا كانت انتخابات أيلول/سبتمبر الماضي، يحوز الحزب على المرتبة الخامسة فيها، وهو الذي كانت لها الرتبة الأولى في سابقتها، بل يسبقها خصمه المستجد حزب العدالة والتنمية الإسلامي، ولا يكسب غير 38 مقعداً. كان إخفاقاً ليس هيّناً، استدعى نقاشاً في مؤسسات الحزب يراجع كل التجربة، يحاول أن يتبين أوجه القصور في الأداء الحزبي، والحكومي طالما أن الحزب كانت له مواقعه في التسيير العام في غير وزارة. ولذلك كان طلب المكتب السياسي من اليازغي التنحي عن موقعه الذي تسلمه في خريف 2003، وبادر الرجل إلى الاستجابة، بل أيضاً قام بتجميد عضويته في المكتب السياسي إلى حين عقد المجلس الوطني للحزب في وقت لاحق، مع الإبقاء على المشاركة في الحكومة من باب الالتزامات السياسية والأخلاقية تجاه حلفاء الحزب في الكتلة الديمقراطية التي تضم «الاستقلال» و«التقدم والاشتراكية» أيضاً، وتجاه تحالف الأغلبية في البرلمان. وكشف طلب التنحي الذي تجاوب معه أيضاً نائب اليازغي وزير العدل عبد الرحمن الراضي عن أزمة في الحزب العتيد استوجبت الإسراع في تفادي أن تتدحرج وتودي بمكاسب جوهرية وغير قليلة حققها الحزب بين الجمهور المغربي وفي الفضاء السياسي العام في بلده. والبادي أن المعالجة قيد التحقق لا تذهب إلى توزيع مسؤولية الإخفاق المتحدث عنه على السلطة ودوائر الحكومة المختصة بتنظيم العملية الانتخابية، ولا تحيل إلى ما هو خارج الحزب، وإن تلحظ إشكاليات في المشهد السياسي العام. والجوهري في الأثناء أن النقاش الدائر حاليا في الحزب العريق لا يروح إلى الانكفاء عن المشاركة في العمل الحكومي، ولا إلى ممارسة الحرد كفعل سياسي. إنها ممارسة سياسية شجاعة، تذهب إلى التعقيد في المسألة الداخلية الحزبية برغبة مؤكدة في اتجاه الإنقاذ وتحديد المسؤوليات، بعيداً عن أي روح انتقامية أو زجرية أو عقابية، فاليازغي باق في مواقعه الأخرى في حزبه، وقد أثنى المكتب السياسي طويلاً على نضاله وتجربته العريضة في حزبه.... تُرى، هل يمكن أن يفيد أحدٌ من الحالة هذه كلها، في الأردن وغيره، في حزب جبهة العمل الإسلامي مثلاً؟. |
|
|||||||||||||