العدد 35 - كتاب | ||||||||||||||
عواد علي يتفق بعض دارسي المسرح الغربي، على أن ليلة العاشر من كانون الأول العام 1896 كانت ليلةً تاريخيةً في مسرح (التياتر دو لوفر) بباريس، فقد وجهت خلالها فوهة مدفع ثقيل إلى نبض أرسطو، والبناء الذي شيّده للدراما حينما عرض ألفريد جاري مسرحيته "أوبو ملكاً"، وهي تقوم على الجمع التركيبي بين المتناقضات والأضداد، وتحرير الخيال من خلال المجاورة بين عناصر الحياة اليومية بشكل غير مألوف أو سيريالي. ويتزامن مع ذلك تقديم عالم بديل يصبح كل شيء فيه في دائرة الممكن. وتمزج مسرحيته الساخرة "الباروديا" بين التركيز على الدمامة الجسدية، والمسخ الأخلاقي، وازدراء بالمظاهر البورجوازية والمحرمات الأخلاقية، والهجوم القاسي على المؤسسات الاجتماعية، مستندةً، أساساً، إلى الروح الكرنفالية في كتابات رابيليه، التي نبه إليها وحللها باختين، واستخلص منها نظريةً راديكاليةً في الفكاهة. ولعل ما يؤكد طليعية هذه التجربة المسرحية قول أندريه جيد عنها "إنها الشيء الخارق للعادة، الذي لم يرَ المسرح مثله منذ وقت طويل"، ووصف ييتس لها "بأنها علامة تنهي مرحلةً كاملةً في الفن". ويُعدّ أنتونين آرتو من أبرزالذين تأثروا بتجربة جاري المجنونة، المقوضة للقواعد المسرحية، والمعايير الجمالية، والأنساق الأخلاقية. وكان أول مظهر من مظاهر تأثره به هو إطلاقه اسمه على مسرحه الذي قدم عليه بعض تجاربه المجارية لروح جاري المتمردة، وبخاصة تلك التي تهدف إلى إحداث تأثيرات صادمة في ذهن المتلقي، وذائقته الجمالية، وقيمه التقليدية، وإرباك حواسه، على غرار ما فعله رامبو في صوره الشعرية الصادمة، ووضع مسلماته موضع المساءلة، والوقوف بينه وبين أي تصور عقلاني للواقع. بعد مشاهدة آرتو للمسرح البالينيزي (نسبة الى جزيرة بالي الأندونيسية) حاول المزاوجة بين مصادره الطقسية والسحرية والروحانية من جهة، وصور القسوة والعنف والهلوسة، والأشكال الغرائبية، والتجريد الرمزي في مسرح جاري من جهة أخرى. في السياق ذاته دعا إلى أن يقوم المسرح بتطوير لغة طقسية بصرية من خلال إعادة اكتشاف العلامات الجسدية الكونية، أو ما يسميها بـ «العلامات الهيروغليفية» إشارةً إلى كونها علامات صوريةً. كان للسينما الصامتة أثر كبير في تعميق نزعته إلى إطلاق مسرح يتصدر فيه خطاب الجسد، والتشكيلات الحركية والتكوينات المبهرة، ويتواصل مع المتلقي من خلال بنى مشهدية، بدلاً من التواصل بالكلمات، أو اللغة المنطوقة، التي اعتقد أنها أصبحت عاجزة عن تحقيق التواصل بين البشر في القرن العشرين، وهو اعتقاد أخذ به أغلب الكتاب الطليعيين، ولذلك نبذ أدبية الخطاب المسرحي، مثلما نبذ السينما الناطقة، التي عدّها عبثاً محضاً ونفياً للسينما ذاتها، ورفض هيمنة الملفوظ على النص المسرحي، ودعا إلى تجريده من الثرثرة التي تكبله، بل إلى انتهاكه وتهشيمه، وعدم خضوع المخرج له، لاستخلاص جوهره القابل للرؤية، أو المشاهدة، وجعله نقطة انطلاق فحسب، لأن النص حسب رؤيته يتوجه إلى وعي المتلقي وذهنه، ويُهمل لاوعيه؛ وفي هذا الصدد يقول «أنا أفعل بالنص ما أشاء»، وبالفعل حول النصوص التي أخرجها إلى نوع من الصراخ، وتلاوة التعاويذ السحرية، والتمتمات المصاحبة للمشاهد البصرية التي يغلب عليها الطابع الطقسي والإيمائي والرقص البدائي والغناء والموسيقى. واستبدل شعر الحوار بشعر في الفضاء، أي بشعر بصري يتموضع في كل ما يُرى على المسرح من أداء جسدي (حركي وإيمائي)، وتكوينات، وكتل، وألوان، وإضاءة. لقد تمثلت السينما لآرتو في قدرة الكاميرا على تركيز الانتباه على ما تبدو أشياءً ليست لها دلالاتها، ولكن لها أهميتها بالنسبة له، وجعل كل ما يفتقر إلى الحياة حياً. إضافةً إلى أن عمليات تقطيع الصور أمكنها خلق عمليات تحول، وإيقاعات أصبح العالم من خلالها صورةً وجدانيةً. لكن آرتو، على الرغم من شطحاته وجنونه، لم يكن حالماً إلى الحد الذي يجعله يظن أن المسرح المتاح له، بتقنياته في الثلاثينيات، كان قادراً على صياغة الصور المرئية بالحرية الكبيرة المتوافرة للسينما. وإذا كان منظور آرتو للمسرح، على الرغم من تكامله، مطمحاً عسير التحقيق على الصعيد العملي، ولم ينل أي نجاح في زمنه، بل أهمل تماماً في بلده فرنسا، وهوجم من منطلقات مختلفة، منها أنه يستعصي على التمثل والمقاربة، ويقوض مبادئ الدراما المتواضع عليها، فإنه جرى اعتناقه «وأسس عليه كل الاتجاهات في المسرح الطليعي الأميركي والبولوني، التي غيرت من هدف المسرح، وفجرت شكله التقليدي من خلال إعطاء الأولوية للجسد وللحركة على حساب النص». شكّل هذا المنظور إطاراً مرجعياً أساسياً لمعظم تجارب المخرجين الطليعيين الذين مرّ ذكرهم، ولأؤلئك الذين تبنوا لاحقاً أشكال المسرح الطقسية والصورية في الدول الاشتراكية المنحلة، والأسكندنافية وأميركا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية والإفريقية، ومنها العربية، التي برز فيها عدد من المخرجين، على اختلاف تمثّلهم وتبنيهم لذلك المنظور، وصيغ التعبير الصوري، أوالبصري في تجاربهم الإخراجية، ومنهم: صلاح القصب، محمد إدريس، الفاضل الجعايبي، الفضال الجزيري، الحبيب شبيل، حاتم دربال، شفيق المهدي، عبد الله السعداوي، حازم كمال الدين، ناجي عبد الأمير، يوسف الحمدان، باسم قهار، كاظم النصار، حكيم حرب، أحمد حسن موسى،... وغيرهم. |
|
|||||||||||||