العدد 35 - ثقافي
 

علي بدر

صدر كتاب ديفيد هيرتز عن حياة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، ويصور الكتاب كيف عاش ريكور حياة صعبة وشاقة بحق، فقد قضى طفولته يتيماً في ملجأ، وقضى أربعة أعوام من شبابه أسيراً في سجون النازية الوحشية، متنقلا من معسكر اعتقال إلى آخر في مختلف أنحاء أوروبا. كما أنه تعرض لهجوم كاسح من قبل مثقفي ومفكري فرنسا على مختلف نزعاتهم وتياراتهم، وعانى من التهميش والإقصاء والرفض من قبل الحركات الثقافية والفكرية التي كانت سائدة في عقدي الستينيات والسبعينيات، وتعرض للإهانة والازدراء والهجوم من قبل الراديكاليين الماويين بعد أحداث الحركة الطالبية في باريس إبان العام 1968، وعاش حياة المنفى الاختياري بعد هذه الحادثة المؤلمة، مكرساً حياته للبحث في بلجيكا أولاً، ومن ثم أميركا، وهي التي أطلقت شهرته.

لقد عاصر بول ريكور التاريخ العالمي بأعقد مراحله: الحرب العالمية الأولى، وقد فقد والده أثناء معاركها، صعود النازية وخوفه الشديد من نذر العنصرية والكراهية والتطهير العرقي، ثم الحرب العالمية الثانية، وقد وقع أسيراً في قبضة الجيش النازي. بعد ذلك عاش حرب الجزائر التي ناصر فيها المقاومة، ثم الحرب الباردة التي جعلته يكتب أهم كتبه عن الشر في العالم، ونهاية المعسكر الاشتراكي الذي ألهمته الذاكرة والتاريخ، وعودة أخلاق القوة وتغليب الحل العسكري في الصراعات الدولية ثم حرب البوسنة، وأخيراً حرب العراق وقد وقف من جميعها موقفاً شاجباً حازماً...

كانت أفكار ريكور الخلافية، على الدوام، شبه ممنوعة في فرنسا وعلى نحو ظالم وخاطئ، وكان مكروهاً من قبل كبار المثقفين ومهمشاً من التيارات الفكرية والثقافية والسياسية، وذلك لاستقلاليته التي لم يتنازل عنها مطلقاً، ولفردية وخاصية أفكاره التي لم يتخل عنها لصالح الانضمام للجماعات والتجمعات والتيارات، وهو ما يسمى الثقافة الفرنسية خاصة.

لقد آمن بول ريكور على نحو حدسي بشرور وآثام الطبيعة البشرية ولا سيما بعد أن شهد أهوال الحرب العالمية الثانية كما صورها في كتابه «الإنسان الخطاء» فقرر أن يقود مشروعاً أدبياً وفلسفياً وثقافياً وفكرياً يستلهم فيه الإيمان الروحي، ويقارب فيه بين الفضائل الأخلاقية، لكن ثورته الروحية والأخلاقية والإنسانوية قلما وجدت من يناصرها وسط الانشغال الكلي في الحروب الميتادولوجية والبنيوية واللسانية والوجودية وسط مناخ سياسي وثقافي متشابك ومعقد.

جيل الغضب

لقد أفرزت ثقافة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا جيلاً غاضباً في فرنسا وتيارات واتجاهات شديدة التطرف كرد فعل طبيعي لدمار الحرب وأحداثها، وحين أصبحت الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة هي البوتقة الحقيقية لصهر العلم بالأدب والإيديولوجيا، انطلقت نظريات فلسفية صاخبة ومزلزلة في الأوساط الثقافية الباريسية، من وجودية وبنيوية ونظرية تأويل وسيميولوجيا...غير أن ريكور لم يختر أيا من هذه الاتجاهات، أو التصنيفات ليكون جزءا منها، فقد رفض جميع هذه النظريات والتيارات واختار أن يسلك طريقا ناقدا لها.

بعد نقده وتهديمه لحججها اختار موقفاً وطريقاً خاصاً صعباً وشاقاً، لكنه طريق منهجي ورصين بعيداً عن السنوبية الفلسفية الفرنسية، والتظاهر الكاذب، والروح الألمعية التي كانت تطبع الوسط الثقافي الباريسي، فأضحى بذلك خارج معادلة التصنيف، ومهمشا رغم رصانة نظرياته وأصالتها.

المنفى الثقافي

عاش بول ريكور منفياً من المشهد الثقافي الفرنسي، رغم ارتكاز أكبر المفكرين المشاهير في تلك المرحلة على أفكاره ونظرياته، فكان يتعامل مع الأفكار والنظريات بمنهج نيتشوي واضح، وهو النقض، ومن ثم تجاوز النظرية المنقوضة، وقد ارتكز إلى مفهومين واضحين: الأول هو المحاورة السقراطية، والثاني هو الجدل الهيغلي...وما كان بإمكانه أن ينجح فيهما لو لا معرفته الواسعة وقدرته على تطوير سبل وآليات منهجية جديدة في الجدل والحوار، وقدرته على استلهام طيف واسع جدا من الأفكار، من سقراط إلى ليفيناس ومن أفلاطون إلى أرسطو، ومن القديس أوغسطينوس إلى كارل ياسبرز، من سبينوزا إلى إدموند هوسيرل، من نيتشه إلى غادامير، ومن كلود ليفي ستراوس إلى هابرماس، وبالرغم من انتمائه الواضح إلى الاستراتيجية الفكرية العامة لكارل ياسبرز، وغابريال مارسيل، وإمانويل مونييه، إلا أنه تجاوز هذه الفلسفات بمراحل عديدة بعدئذ.

لم تكن أفكار بول ريكور ونظرياته على موضة الأفكار والتيارات والاتجاهات السائدة في تلك الفترة، فقد كانت التيارات الوجودية والبنيوية والماركسية هي الدارجة، وقد دبج ريكور نظريته التأويلية بنقد هذه التيارات بقوة، مع ارتباط نظريته بوجودية ياسبرز وغابريل مارسيل، التي كانت محاصرة من قبل التيار الوجودي الذي قاده سارتر والتيار الماركسي-البنيوي الممثل بألتوسير وهنري لوفيفر ولوسيان غولدمان. وكانت البنيوية هي التي قادت صراعاً ضارياً ضد التيار الوجودي والأفكار الوجودية من خلال الجدل الذي دار بين شتراوس وفوكو وسارتر، وفي خضم هذه المعارك برز تياران ماركسيان متماسكان من داخل البنيوية ومن خارجها، وهما التيار الماوي، والتيار التروتسكي، وتحولا إلى ثقافة شعبية من خلال مجلة «تل كل» ( الراهن ) والمحيطين بها، وقد اتهم ريكور في تلك الفترة بالرجعية، واليمين والالتزام بالأفكار البالية، من قبل هذه المجلة ولا سيما من قبل فيلسيب سولرز.

ويصور الكتاب الجزء الآخر من نشأة ريكور الفلسفية التي جعلته عرضة للنقد، هو أنه لم يكن فيلسوف موقف، أو فيلسوف التزام على طراز فلاسفة المواقف الآخرين، أمثال: سارتر أو ميرلوبوينتي أو فوكو أو دلوز أو بورديو أو دريدا..ولم يكن صوته يشبه أي صوت من هذه الأصوات، فقد كان صوتاً خفيضاً على الصعيد الدعائي أو الإعلاني، كما أنه لم يكن فيلسوفا في المقهى مثل الفلاسفة الفرنسيين الذين يسيرون ويحيط بهم الطلاب والمريدون، مثل كامو، أو آلن، أو برنار هنري ليفي، ولم يكن مفكراً شعبياً على غرار المفكرين في الصحف والمجلات، كما أنه لم يكن سياسياً مثل آلان تورين أو غلوكسمان، ولم يكن صاحب موقف صاخب، بالرغم من التزامه موقفا واحداً وثابتاً طوال حياته.

الكتاب 500 صفحة، وصادر عن دار LA Fiérté

كتاب عن حياة بول ريكور: منشد الفلاسفة الحزين وحامل “الصليب الوردي”
 
17-Jul-2008
 
العدد 35