العدد 35 - دولي | ||||||||||||||
صلاح حزين من قبل أن ينتخب ديمتري مدفيديف رئيسا لجمهورية روسيا الاتحادية في مطلع العام الجاري، كان الغرب قد بدأ حملته عليه بوصفه صنيعة الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين، وبأن سياسته الخارجية والداخلية سوف تكون نسخا مكررة عن السياسة التي اتبعها بوتين، والتي استقطبت عداء الدول الغربية بسبب نزعته المتحدية المنطلقة من سعيه إلى إعادة مجد الاتحاد السوفياتي السابق إلى روسيا. منذ خطاب تنصيبه الذي وضع فيه الملامح الرئيسية لسياسته الداخلية والخارجية، لم يتحدث مدفيديف عن سياسة روسيا الخارجية، سوى في الأسبوع الماضي في أثناء لقاء له مع رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون. فمن الواضح أن الضغوط الخارجية التي تواجهها روسيا من أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وكذلك من جمهوريات سوفياتية سابقة، دفعت مدفيديف إلى العودة إلى السياسة الخارجية لبلاده منتهزا فرصة لقائه بسفراء روسيا في الخارج، مذكرا، من جديد، بمواقف بلاده من عدد من القضايا. أما الشرارة التي أطلقت تصريحات مدفيديف أخيرا فكان الاتفاق الذي أبرمته الولايات المتحدة مع جمهورية التشيك على نصب منظومة صواريخ متطورة على الأراضي التشيكية، فيما يعرف بالدرع الصاروخي، بهدف مواجهة أي "عدوان" إيراني، كما تقول الولايات المتحدة وجمهورية التشيك التي كانت، حتى عشرين عاما خلت، دولة اشتراكية تدور في فلك الاتحاد السوفياتي. الخطوة التشيكية لم تكن مفاجئة، بل سبقتها مشاورات ومناورات بين الجمهورية الاشتراكية السابقة وبين الولايات المتحدة التي أعلنت منذ عامين، أنها تنوي نشر منظومة الدرع الصاروخي في كل من جمهورية التشيك وبولندا، وقد استدعى ذلك فورا حذرا روسيا مبررا؛ فالهدف من نصب الصواريخ ليس مقنعا، فإيران تقع على مبعدة من كل من الجمهوريتين الأوروبيتين الشرقيتين، وروسيا تقع بينهما تماما. الحذر الروسي اتخذ في البداية تعليقات تحذر من تعكير صفو الأمن في أوروبا، ثم مضت روسيا خطوة أبعد حين اقترحت على الولايات المتحدة أن تتعاون روسيا معها في منظومة الدفاع التي تنوي واشنطن نصبها، ولكنها اقترحت أن يتم نصب الصواريخ في إحدى جمهوريات آسيا الوسطى، التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي سابقا، فهناك تكون الصواريخ أكثر قربا من "الهدف"، أي من إيران، ومع أن هذه حقيقة جغرافية مؤكدة، فإن الولايات المتحدة رفضتها. أحد أوجه الخطورة في موافقة جمهورية التشيك على نصب الدرع الصاروخي على أراضيها، هو أن دولة أوروبية شرقية أخرى، هي بولندا، سوف تحذو حذوها في احتضان مزيد من الصواريخ، ما يعني مزيدا من الحصار المفروض على روسيا من الولايات المتحدة، ومن الغرب الذي يدعمها في خطواتها التصعيدية هذه. لكن الدرع الصاروخي، على أهميته، لم يكن السبب الوحيد في غضب روسيا الذي بدا جليا في خطاب مدفيديف الأخير، فقد بدأ يتكون لدى روسيا شعور بالحصار الذي تفرضه عليها دول الغرب بزعامة الولايات المتحدة. فهنالك قضايا أخرى تؤجج الغضب الروسي الذي ينمو على إيقاع مشاعر الحصار الذي لم يكن الدرع الصاروخي سوى أحد تجلياتها. فعلى حدود روسيا، تشدد دول البلطيق التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي أيضا، نبرة العداء لروسيا عبر استحضار وقائع تاريخية جرت أيام الاتحاد السوفياتي في معرض إعادة الاعتبار إلى تاريخها الذي لم يكن دائما مشرفا على أي حال، ومن هنا جاء اتهام مدفيديف لهذه الجمهوريات بأنها "تمجد الفاشية" وبأنها أيضا "تتعامل مع أوراق التاريخ كما تتعامل أوراق اللعب." وإلى الغرب قليلا من دول البلطيق، ما تزال قضية استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا تثير تداعيات سلبية، خاصة وأن روسيا لم تعترف باستقلال الإقليم لأنه يلحق مزيدا من التفتيت بمنطقة البلقان المتفجرة تاريخيا. خطاب مدفيديف احتوى أيضا رفضا حازما لتوسيع حلف شمال الأطلسي، الناتو، باتجاه روسيا، وكان يقصد بذلك موافقة الولايات المتحدة على ضم كل من أوكرانيا وجورجيا إلى عضويته، وهما دولتان على حدود روسيا، ويحكمهما نظامان معاديان لها. وكان طبيعيا ألا تبقى روسيا صامتة على اقتراب الناتو من حدودها، ومعه بالطبع البنية التحتية لترسانة من الأسلحة الأميركية، ما جعلها تحرك قضيتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وهما إقليمان جورجيان متمردان، في مسعى إلى تشتيت جهد جورجيا الساعي بدوره إلى مناكفة الدولة الإقليمية الكبرى. وفي هذا الإطار اعترفت روسي، لأول مرة أخيرا، بأن أربعا من طائراتها اخترقت الأجواء الإقليمية الجورجية، وهو ما كانت تنفيه سابقا، ما جعل جورجيا تهدد بأنها سوف تسقط أي طائرة تخترق أجواءها. صورة قاتمة تعيد إلى الأذهان الحرب الباردة بين الشرق والغرب الذي كان منقسما أيديولوجيا حتى مطلع التسعينيات بين نظامين: رأسمالي واشتراكي. وانهارت الاشتراكية وتحولت روسيا إلى النظام الرأسمالي، ولكن أجواء الحرب الباردة عادة في إطار النظام الرأسمالي الذي ينتمي إليه الطرفان. |
|
|||||||||||||