العدد 35 - اقليمي | ||||||||||||||
معن البياري دخلت الأزمة الإنسانية والسياسية والأمنية في إقليم دارفور في السودان في 14 تموز الجاري في محطة شديدة التوتر، بعد طلب المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، الأرجنتيني لويس مارينو أوكامبو، من قضاة المحكمة ال 18 إصدار مذكرة لتوقيف الرئيس عمر البشير، لاتهامه بارتكاب «جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب» في الإقليم. وذلك في بيان اعتبر االرئيس السوداني «رأس الحربة لحملة إبادة تقترفها قواته في دارفور، فتقتل الرجال، وتغتصب النساء»، إذ إن الرئيس، بحسب البيان، يريد إنهاء (شعوب) دارفور، أي قبائل الفور، والمساليت، والزغاوة غير العربية، ويستخدم لذلك جيش بلاده ويجنّد الميليشيات. وبذلك، يتضمن البيان أول طلب أمام محكمة الجنايات الدولية لاعتقال رئيس دولة يزاول مهامه، الأمر الذي توافقت السلطة، والمعارضة في الخرطوم على رفضه، واعتبر حزب الأمة المعارض أن قراراً للمحكمة في هذا الشأن يسبب «انهياراً دستورياً» في بلاده. يُدهش المرء حرص هيئة قضائية دولية ذات صلاحيات واسعة على إنفاذ المحاسبة والعدالة، والمساءلة، والمعاقبة في قضية دارفور، فيما ينجو مجرمو الحرب الإسرائيليون، ممن في الحكم في الدولة العبرية وممن غادروا السلطة من أية مساءلة. وإذا كانت وجهات النظر العربية، الشعبية الواسعة وبعض الرسمية، تذهب إلى إعلان الاستهجان واستنكار ما ستوصف بأنها ازدواجية في المعايير وانتقائية في القضاء الدولي، فإن ما أقدم عليه أوكامبو سيضاعف التشويه في الصورة الشائعة في الشارع العربي عن حقائق الجاري في دارفور، والتي يراها الرأي العام العربي مجرد مؤامرة أميركية وصهيونية تستهدف السودان والنظام فيه ووحدة أراضيه، من دون التفات إلى المأساة في الإقليم الذي يدين جميع سكانه (نحو خمسة ملايين) بالإسلام، ومن عناوينها أن نحو مليون ونصف المليون مشردون في مخيمات شديدة البؤس، جراء تقتيل وتهجير، واعتداءات تتواصل، وإن بتفاوت في حدّتها، منذ أكثر من خمس سنوات. وفي وسعنا التسليم بأن مبالغات تروّجها دول ودوائر ومنظمات غربية بشأن عدد القتلى الذين تزعم الخرطوم أنهم عشرة آلاف، فيما يقترب من نحو مائتي ألف، وإن يشيع دولياً حالياً أنهم ثلاثمائة ألف. وبإضافته البشير إلى وزير الدولة السوداني للشؤون الإنسانية (... ) أحمد هارون والقائد الميداني علي محمد عبد الرحمن (كوشيب) اللذين كان قد طلب توقيفهما في شباط/ فبراير العام الماضي، لاتهامات مماثلة، فالبادي أن المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية ،يقصر اتهاماته على رسميين سودانيين أو من أنصار النظام في الخرطوم، ولا يوجّه أياً منها إلى أيّ من زعامات ميليشيات التمرد في دارفور، على الرغم من أن تقارير بعثات من الأمم المتحدة جاءت على مسؤوليات غير قليلة بشأن فظاعات في الإقليم يتحملها المتمردون في الحركات المسلّحة. في تنوير لإعلاميين كان منهم كاتب هذه السطور، شدّد رئيس مكتب الأمم المتحدة في ولاية جنوب دارفور اليمني عبد الله فاضل في مكتبه على أن «الجميع»، بتعبيره، متورطون في اقتراف انتهاكات فظيعة، وأكد أنه ليس صحيحاً حصر تسمية الجنجويد على المسلحين النهّابين من قبائل عربية في الإقليم تستهدف القبائل الإفريقية، ومن الخطأ افتراض أن تكون سودانياً عربياً في دارفور لتكون متهما. وإذا كان أوكامبو بنى حيثيات بيانه الجديد على تحريات ووثائق وشهادات، على ما أوضح عن عمله منذ بدأه في 2005، فإن اقتصار اتهاماته على رسميين سودانيين ومحسوبين على النظام ،من زعامات الميليشيات القبلية يؤشر إلى افتراضات مسبقة ينطلق منها جهده، يتم البحث عن أدلة بشأنها، ويعثر عليها فريقه ومعاونوه، وأغلب الظن أنها تتوافر على بعض الوجاهة، وإن تشوبها عدم الدقة، بالنظر إلى أن كثيرين في فرق التحقق من انتهاكات حقوق الإنسان غير مؤهلة تماما في التعامل مع شهادات نازحين وضحايا، تحتاج إلى تحرّز شديد، كما أيقن ذلك كاتب هذه السطور في تدوينه لما سمعه في ثلاثة معسكرات نازحين في جنوب دارفور في آذار/مارس الماضي. ولمّا كان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية هو من أعلن في 11 تموز /يوليو الجاري عن توجه أوكامبو إلى طلب توقيف البشير، فذلك مما سيزيد في التشويه المشار إليه، إذ يتبدّى كأن تنسيقاً يجري بين واشنطن والمحكمة الجنائية الدولية، فيما الولايات المتحدة ترفض المصادقة على نظام روما الذي اعتمد في 1998 لإنشاء المحكمة التي بدأت عملها رسمياً في تموز / يوليو 2002 كمحكمة دائمة تختص ب «أكثر الجرائم خطورة في موضع الاهتمام الدولي»، وتحديداً «الإبادة الجماعية» و«جرائم الحرب» و«الجرائم ضد الإنسانية»، فضلاً عن جريمة العدوان التي أرجئ تعريفها إلى العام 2011. من المفارقات أن 60 دولة صادقت على نظام روما الذي تحرص الولايات المتحدة على تحصين مواطنيها منه، وتحضّ الدول العربية على المصادقة عليه. ووقع السودان عليه في أيلول/ سبتمبر 2000، من دون أن يصادق عليه لاحقاً، ما لا يعفيه من ولاية المحكمة في حال كلّفها بذلك مجلس الأمن الدولي. والمتوقع في الأيام المقبلة أن يحاول المجلس ذلك، وأن يساند أوكامبو الذي وصفه مسؤول سوداني بارز بالمهرج. ولا مجازفة في التخمين هنا أن مجلس الأمن سيخفق، حيث الفيتو الصيني مرجح أمام أي مشروع قرار أميركي في هذا الخصوص، وإن تذهب تقديرات إلى أن المجلس قد يعمد إلى تعليق طلب أوكامبو 12 شهراً قابلة للتجديد، وهو ما بدأ سعي الاتحاد الإفريقي إليه، وإن سارعت فرنسا وغيرها إلى مطالبة الخرطوم باحترام ما يصدر عن محكمة الجنايات الدولية، وإن باركت المفوضية الأوروبية مطلب أوكامبو الذي حظي بإشادات هيئات ومنظمات حقوقية دولية وعربية. |
|
|||||||||||||