العدد 35 - أردني
 

خليل الخطيب

التغير الذي طرأ على عمان خلال العقدين الأخيرين أكبر من ألا يلاحظه من عاش فيها قبل تلك المدة. التغير شمل كل شيء؛الناس وبعض العادات والممارسات التي تحتاج اكتشافا. لكن هنالك بعض التغيرات التي لا تحتاج لأكثر من الوقوف على رصيف أحد الشوارع الرئيسية. إنها مواكب الأعراس التي تعلن عن وجودها من خلال أعداد هائلة من السيارات التي تسد الشوارع مفسحة المجال أمام سيارة العروس والعريس للمرور على مهل في أوقات الذروة المرورية.

يمضي الحاج إبراهيم زعرور فترة مابين صلاة المغرب وصلاة العشاء متجولا على قدميه في رحلة تنزه مسائية في منطقة سكنه في جبل الزهور، بهدف إراحة أعصابه. ويحدث أن يستمتع المتقاعد الذي أوشك على بلوغ السبعين بهذه الرحلة اليومية مع بعض أقرانه من خلال تبادل أحاديث ذات شجون عن زمن مضى وانقضى.

يوم الجمعة 11/7/2008 لم تكن جولة الحاج زعرور ممتعة ولا مسلية، فهواء الشارع الذي يمتد ملتويا في عدة حارات بين منزله والمسجد انكتم فجأة، وتحول الهدوء المسائي اللطيف الذي لا تقطعه إلا صرخات وضحكات الأطفال اللاعبين في أكناف منازلهم، إلى بحر يموج بضجيج زوامير موكب من السيارات والباصات الصغيرة تتقدمها سيارة مزينة لعروسين يحتفلان ببدء حياتهما الزوجية.

خيبة أمل الحاج إبراهيم الذي عاش حياته مربيا يدعو تلامذته إلى السلوك المتحضر والمتمدن، لا تقاس من حيث شدتها بمشاعر الغضب التي انتابت عشرات من السائقين الذين احتجزت سياراتهم خلف موكب العرس الذي تتقدمه سيارة فارهة من نو ع المرسيدس الشبح.

السيارة التي جعلت المحتجزين يستشيطون غضبا، كان يقودها العريس، وإلى جانبه عروسه يتبادلان حديثا باسما، فيما راحت بضع سيارات فارهة تتهادى ببطء شديد خلف هذا الموكب مطلقة العنان لزواميرها في مشهد "لا يمكن وصفه بأقل من الصفاقة،" بحسب شاب عراقي يعيش في الشارع الذي دخل في حالة من الإغلاق التام دون أن يستطيع أحد إنقاذ الموقف.

آراء مختلفة

لم يكن ذلك هو الشارع الوحيد الذي تم إغلاقه واحتجاز الناس فيه خلف موكب زفاف في مناطق عمان المختلفة، ولن يكون الوحيد الذي سيحدث فيه ذلك في الأسابيع المقبلة، وحتى نهاية فصل الصيف، بحسب وائل النعمان، الموظف في أحد محلات الملابس النسائية في شارع خالد بن الوليد في جبل الحسين. ويرى النعمان أن مواكب الأعراس تمثل "ظاهرة صيفية في شوارع عمان وليست مجرد حوادث متفرقة." ولا يجد النعمان في هذه الظاهرة "ما يعيب" وهو يعتقد أنه سيفعل ذلك أيضا عند زواجه، لأن الموكب بحسب رأيه "يعطي للمرحلة الأخيرة من الزفاف فخامة وبهجة."

لكن عبد الغني فرحات، تاجر مواد صحية في منطقة خلدا، يرى أنه على العكس مما ذهب إليه النعمان، فإن ظاهرة المواكب هذه "مؤذية للآخرين ومعطلة لمصالحهم." ويتساءل مستنكرا "ألا يفكرون باحتمال وجود مريض في حالة الخطر في إحدى السيارات التي احتجزوها خلفهم؟"

ويستذكر فرحات، "الناس قبل عشرين عاما فقط كانت تزف العريس إلى عروسه على الأكتاف في مشهدية احتفالية تعبر عن الفرح الحقيقي، أما هذه المواكب فهي مجرد استعراضات فارغة لقوة العشيرة أو الغنى ولا تمت إلى الفرح بصلة." وأضاف كمن تذكر شيئا: "إنهم يعبرون عن فرحهم، من خلال تنغيصهم على الآخرين."

عدد من رجال السير استطلعتهم ے في أماكن مختلفة من العاصمة فضلوا عدم ذكر أسمائهم، اتفقوا على أن "هذه الظاهرة تسبب إعاقة غير مبررة للمرور خاصة في نهاية الأسبوع." وذكر أحدهم أن "أولوية رجل السير في هذه الحالات، هي تسيير المرور بأسرع وقت ممكن، وليس كتابة المخالفات بحق المخالفين إلا في حالات نادرة."

وتابع مستطردا "هذه المواكب لا تعبر في رأيي عن الفرح وإنما هي مجرد مظاهر كاذبة، تدل على الأنانية، لأن صاحب العرس يعيق حركة الآخرين خلفه ليظهروا في شريط الفيديو وكأنهم من أقاربه."

وشدّد على أن "هذه الظاهرة مخالفة للقانون، ويمكن أن تسبب حرجا للعريس وأقاربه في حال أوقف العريس أو أقاربه بتهمة الإعاقة المتعمدة لحركة السير."

الطبيب النفسي محمد الحباشنة يقرأ هذه الظاهرة من ثلاث زوايا" فهي تمثل حالة استعراضية عالية، وتمثل مشكلة أخلاقية لدى بعض الناس إذ يستغلون فرحهم لاتعاس واستفزاز الآخرين."

ويضيف الحباشنه مفسرا: "يمكن لهؤلاء أن يتخذوا الجانب الأيمن من الطريق ويتركوا المسارب الأخرى للناس، وسيجدون عندها أن الناس ستفرح لفرحهم."

أما النقطة التي يعتبرها الحباشنة الأكثر خطورة في هذه الظاهرة، فهي أنها تمثل مظهرا من مظاهر "عنجهية المجموعة" التي تعبر عن "حالة استقواء على القوانين والأنظمة والأخلاق."

ويشدد على أن استمرار هذه الممارسات والسكوت عنها يؤدي إلى تعود من يمارسونها على "رؤية أنفسهم فوق القانون والأخلاق طالما هم ضمن مجموعتهم."

ويعبر الحباشنة عن أسفه لأن هذه الظاهرة "أصبحت واقعاً ملموساً"، ويقدم مثالا يعتقد أن الجميع باتوا يعيشونه مع هذه الفئة " إذا نظر إليهم أحد السائقين معبرا عن استيائه من سلوكهم، فإنهم ينظرون إليه بازدراءولا مبالاة."

لمدينة عمان أن تغير من طقوس صيفها وشتائها كما تشاء. وهي من أسرع المدن العربية تغيرا على المستوى الديموغرافي، والعمراني، والاقتصادي، والسياسي،

فليس غريبا، والحالة هذه أن تغير عمان طقوس الاحتفال بزفاف أبنائها من احتفالية مبهجة أقرب إلى البساطة والصدق، إلى مواكب من سيارات تغتصب الشارع فتحرم الآخرين من حقهم في استخدامه.

**

ذكريات عن عرس قديم

قديما أيضا، كان الصيف موسم التزاوج. فيه كانت تخرج مواكب المحتفلين في زفة يتحول بعضها إلى ذكرى لا تنسى.

طقوس العرس التقليدي في الأردن، كانت تسير في اتجاهين متوازيين: فقبل ليلة العرس يقام للعروس في بيت أهلها حفل وداع لصديقاتها وقريباتها. وكان هذا الحفل الذي يستمر إلى ساعة متأخرة من الليل يسمى ليلة الحناء.

في الليلة نفسها كان العريس يدعو أصدقاءه وجيرانه وأقاربه إلى ما كان يعرف بسهرة العريس، حيث يغني الساهرون ويرقصون حتى ساعة متأخرة من الليل. وعادة ما كانت تنتهي هذه السهرة بأن يدعى العريس من قبل أحد أصدقائه لحمام العريس في بيته.

في اليوم التالي، وبعد تناول المنسف؛ يتوجه أهل العريس ليحضروا العروس، فيما يبقى هو في بيت صديقه، وحالما تصل العروس إلى بيت أهل عريسا يزف العريس محمولا على الأكتاف إلى حيث تتربع العروس على عرشها.

خلال الزفة كان الجميع يشارك في ترديد الأغاني في إطار مظاهر الفرح البادية على

الناس، والتي ترافقهم من مكان انطلاق الزفة إلى نقطة وصولها؛ فتنثر السيدات حبات الملبس أو حبات الأرز فوق رؤوس المحتفلين، وتنطلق الزغاريد من نوافذ بيوت الحي متمنية للعروسين حياة سعيدة.

اللحظة الأكثر إثارة بالنسبة للأطفال الذين التقطوا ملبسات جوار العريس، كانت تحل مع وصول الزفة بالعريس إلى باب أمه المتلظية على جمر سنوات من التربية للحظة كهذه.

أم العريس وأخواته الضالعات في البحث عن هذه اللحظة من السعادة ينفجرن فجأة بالزغاريد والبكاء، بينما الأطفال ينقضون كالنسور على حبات الملبس التي تتناثر بغزارة مطر صيفي من فوق أكتاف العريس.

أغنيات ليلة الحناء للعروس، وسهرة العريس، وتلك التي تغنى بعد أن يجلس العريس إلى جانب عروسه فيما كان يعرف بـ"الصمدة"، كان محتواها يركز على جمال العروس وحسن تربيتها وقدرتها على الإنجاب وتدبير المنزل، وعلى حسن اختيار العريس لعروسه وعن رجولته وقوته ووسامته، وكانت تلك الأغاني تنتهي عادة بشكر أهل العروس على تقدمتهم الغالية؛ أي العروس، ومدح كرم أهل العريس في ضيافة مهنئيهم، والتمني للعروسين السعادة وإنجاب الأطفال.

مواكب الأعراس: اغتصاب الشارع تعبيرا عن الفرح!
 
17-Jul-2008
 
العدد 35