نهاد الجريري

لا يقتصر اختلاف سكان عمان الشرقية عن عمان الغربية على نوعية المنازل التي يسكنها كل منهم؛ المنازل المتواضعة المتلاصقة المكتظة بالأولاد في الشرقية، والبيوت الفارهة كثيرة الغرف قليلة الساكنين في الغربية، بل يتعداه إلى مدى التمسك بالعادات والتقاليد، إلى نوعية الملابس التي يرتدونها ووسائل المواصلات التي يستقلونها.

لكن الاختلاف بين سكان شطري عمان، والتقسيم هنا طبقي وليس جغرافيا فقط، يصبح أكثر وضوحا في الصيف. الاختلاف في الصيف، لا يظهر في المسكن والمأكل والمشرب، بل في وسائل الترويح والترفيه التي أصبحت من ضرورات الحياة بالنسبة لسكان الشطرين. ففيما تحاول الأسر الفقيرة في عمان الشرقية التحايل على الحياة لاقتناص لحظة فرح وسعادة ضمن الشروط المادية المتوفرة، يأخذ سكان عمان من الطبقة العليا المتوسطة، ومعظمهم من سكان الغربية، وقتهم وراحتهم في اختيار مكان، عادة ما يكون خارج الأردن، لقضاء عطلتهم الصيفية فيه، دون حساب للتكلفة، غالبا، بل لمتعة تستحق هذه التكلفة.

أبو الصادق المقيم في أقصى عمان الشرقية، اعتادت أن تحتل عائلته قسما من متنزه غمدان كلما قررت قضاء يوم جمعة هناك. فهي عائلة ممتدة، بالتعبير العلمي، تضم أخوالا وخالات وأعماما وعمات يعيشون في الحي نفسه شرقي عمّان؛ فإذا شدّوا الرحال، لا بد أن يخرجوا جميعا دفعة واحدة "لأن الأولاد بيطلّعو لبعض."

لا يمتلك كثير منهم سيارات، ولكن لحسن الحظ، يمتلك بعضهم سيارات "بك أب"، بحكم عملهم باعة متجولين، فيكدسون الأولاد والنساء في "الصندوق" وينطلقون في يوم، يحسبونه من أيام العمر، إلى متنزه غمدان القريب.

تقول أم محمد: "نحمل معنا فطورنا وغدانا ليوم الجمعة،" وتضم الوجبتان الحمص والفول والفلافل والمقلوبة والكفتة والمنسف؛ ونادرا ما تأخذ أي من هذه العائلات عدة "الهش والنش"، إلا إذا اتفق الجميع على ذلك. "بتكلف وما بتوفي معنا. عيلتنا كبيرة. بقدر أعمل مقلوبة ع جاجة ونص. بس هش ونش بدو لحمة كثيرة. والواحد بقطع فيها،" تشرح أم الوليد التي تضيف "إذا أنا بقدر يمكن سلفي ما يقدر ومش حلوة ولادي يوكلو هش ونش وولاد سلفي يطلّعوا عليهم."

الطريف أن سيدات دار أبو الصادق يصررن على حمل الفرن معهن؛ فكثيرا ما تكون مثل هذه الرحلات عفوية وليدة اللحظة. تقول أم فادي "بييجي أبو فادي وبيقول لي يلّلا يا مرة جهزي الأغراض واطلعوا يا ولاد ع البكم بدنا نروح ع المتنزه." فلا يكون أمام أم فادي الكثير من الوقت لتجهيز "الطبخة"، فتأخذ الفرن وتطبخ "تحت الشجرات!"

وهكذا تنقل السيدات عدة المطبخ بالإضافة إلى الحصائر والفرشات والوسائد والحرامات، فلعل أحدا يريد أن يضطجع في الهواء الطلق، فيما يتكفل الرجال بعدة الأرجيلة وتجهيز حبال القنب أو "المصيص" لنصب المراجيح، فلكل طفل أرجوحته الخاصة به. وهو ما قد لا يتوفر له في مدرسته أو حيه. فتظل الأرجوحة من أجمل الذكريات التي ينقلها معهم هؤلاء الأطفال إلى مراحل عمرهم اللاحقة. تقول مرح ذات الستة أعوام: "أكثر إشي بحبو المرجوحة. ما بنزل عنها حتى نروح. كمان بتخف طلبات إمي وأبوي وبيخلونا نلعب زي ما بدنا."

وفيما تنشغل النساء، كالعادة، بتحضير الطعام، ينشغل الرجال بلعب الكرة في مساحة مستوية يجدونها وسط الأشجار أو ربما في حقل قريب وذلك بسبب عدم توفر الملاعب العامة في المتنزه. فلا يوجد هناك سوى 4 ملاعب تتبع لنوادي الفيصلي والوحدات وشباب الأردن والجيزة. عيد، من جيل الشباب في عائلة أبو الصادق، يقول إن أجرة استئجار ملعب نادي شباب الأردن مثلا تصل إلى 30 دينارا في الساعة.

وثمة مساحة مهمة أخرى تحرص هذه العائلة على توفيرها: المرافق العامة التي "يبتكرونها" أمام عدم توفر مثل هذه الخدمات في المتنزهات العامة. فلا يوجد في متنزه غمدان سوى 4 حمامات، وجميعها مقفلة بالمفتاح، بحسب ما يقوله هؤلاء المتنزهون. دائرة المتنزهات في أمانة عمان تنفي ذلك مؤكدة أنها حددت مواعيد فتح هذه الحمامات من 8 صباحا حتى 6 مساء، وذلك تجنبا لأي "مشاكل أخلاقية". بكل الأحوال، أم جهاد تقول إنها تعرف المنطقة جيدا، "كنا زمان عايشين قريب من هالمكان وكنا ننقل المي من بير الطي وبير البشارات." ومنذ تلك الأيام وأم جهاد وقريباتها يعرفن أين يجدن "المغر" التي يمكن لهن قضاء حاجتهن فيها، خاصة إذا توفر "ستار واق" من القريبات الباحثات عن مخرج من المأزق شرط أن ينتظرن دورهن.

إذاً، لم يأت اختيار متنزه غمدان بمحض الصدفة بالنسبة لدار أبو الصادق. يقول أبو أحمد "بنقدر نروح نصلي الجمعة لأن المسجد قريب." أما أبو أسامة فيضع الجغرافيا في إطارها الاقتصادي، ويقول "مشوارنا ع المتنزه بيكلفنا دينارين، وهذا مقدور عليه."

بالرغم من كل هذا، تستمتع أسر دار أبو الصادق بيوم مختلف إن لم يكن جميلا. فما أن تبدأ الشمس بالمغيب حتى يشعلوا نارا يلتف حولها الجميع ويتشاركون رجالا ونساء في استذكار أغاني زمان. الرجال يفضلون أغاني أم كلثوم، فيما تفضل السيدات التغني بمناقب رجالهن. فتغني أم محمد لأولادها قائلة:

يا بي محمد ويا صندوقنا الاصفر

دارك مدينة وبنتسـوق بلا مخــسر

يا بي عمر ويا صندوقنــا العــالي

دارك مدينة وبنتســـوق بــلا مالي

يا بي محـيي يا قلعـــة حديديــة

طلعـو عليهــا من الألفيــن للميــة

طلعو عليها الأعادي ت يهدوهــا

يخسوا وينسوا ولا قدروا يجيزوها

وإذا ما أرادت أي من هذه العائلات أو مثيلاتها أن تخرج من عمان إلى العقبة مثلا، فلا بد من حسابات أشبه بدراسة الجدوى، تتمحور في العادة على سعر تنكة الديزل.

تقول أم علاء إنها اعتادت قبل حوالي عامين أن تذهب إلى العقبة مع زوجها وأولادها عندما لم تكن الرحلة تكلف سوى 30 دينارا ثمن الديزل. أما اليوم، فالمشوار يكلف 70 دينارا وقودا كحد أدنى.

أما عن الخدمات الأخرى والمبيت فتقول أم علاء إنها كانت وعائلتها تتدبر الأمر من خلال المبيت في السيارة "البك أب" التي يملكها زوجها. "كنا نغطي البكم بالشادر ع شان ينامو البنات، والأولاد الكبار كانوا ينامو ع ظهر البكم." وفي حال لم يتوفر متسع، كانت العائلة تحيط المظلات المنتشرة على الشاطىء "بحرامات" وتقضي الليل داخلها.

أما بالنسبة للمرافق العامة، فلم تكن العائلة تواجه مشكلة في استخدام الحمامات العامة المنتشرة في "ساحة العلم" أو في شط اليمنية. وعن طعام العائلة، تقول أم علاء إنها كانت تحرص على إحضار الشاي والقهوة والخضار من عمان، فلم يكن المشوار إلى العقبة يكلفها سوى حاجيات الصغار من أكياس التشيبس وقطع البوظة. وهكذا تقضي العائلة يومين بالقرب من الماء بأقل التكاليف.

محمود، الشاب العشريني، يحب أيضا أن يأخذ عائلته في "مشوار" إلى الشاطىء، ولكن إلى البحر الميت هذه المرة.

يقول إن المكان قريب، فلا يكلف وقودا أكثر من 12 دينارا. وكالعادة، يحضر طعامه و"أكياس التشيبس" معه فلا يضطر للشراء من استراحتين فقط تتوفران في منطقة "البحرة" لمن لا يقدر على تكاليف فنادق الخمس نجوم المنتشرة هناك. ويضيف أن الاستراحتين تتقاضيان رسم دخول يراوح بين 6-8 دنانير للشخص الواحد. ويفرق بين الاثنتين بأن الأولى، ورسمها 6 دنانير، لا توفر المقاعد إلا بالاستئجار، إذ تبلغ أجرة استئجار الكرسي الواحد ربع دينار. أما الثانية، ورسمها 8 دنانير، فتوفر المقاعد والبرك وبالطبع الحمامات المسقوفة البعيدة عن الشاطىء. لكن محمود لا يدفع أي رسم للدخول، لأنه، ببساطة، يعرف شخصا يعمل هناك. يقول: "لو أنني لا أعرف هذا الشخص لما تمكنت من الدخول ولما استطعت دفع المبلغ."

في هذه الحالة، سيكون على محمد أن يفعل مثلما يفعل كثيرون من زملائه، أي التوجه إلى منطقة "المي السخنة"، التي لا توفر أيا من الخدمات العامة، فليس هناك سوى "الذباب" كما يقول محمود.

حسابات أسعار تنكة البنزين ليست واردة عند رانيا مثلا التي اعتادت لسنوات أن تصطاف وزوجها وولديها في أوربا؛ في باريس ولندن وجنيف لتقيم قرب بحيرتها. لكنها هذا العام ستذهب إلى منتجع فارنا في بلغاريا لأنها تظل أقل تكلفة من مثيلاتها في أوروبا الغربية التي ارتفعت الأسعار فيها ارتفاعا شاهقا. وتشرح أن تكلفة السفر والإقامة أسبوعا في فندق 5 نجوم في فارنا تكلف نحو 800 دينار للشخص الواحد، وذلك ضمن عرض خاص Tour Package. أما في لندن أو باريس فقد تصل تكلفة السفر والإقامة في فندق 4 نجوم حوالي 2000 دينار للشخص. وتقول رانية "ليش أصرف دوبل؟"

أما أيام الجمع، فتقضيها رانيا مع عائلتها في نادي ديونز / طريق المطار حيث يصل الاشتراك السنوي إلى 700 دينار للشخص.

عطاف ذات الـ60 عاما، تبحث هي الأخرى عن "صفقات" مجدية لدى وكالات السياحة والسفر، فلا تمر بضعة أشهر إلا وتسافر إلى الشام أو بيروت أو شرم الشيخ. قبل أيام عادت وابنتها وحفيدتها من مرمريس في تركيا حيث بلغت تكلفة السفر والإقامة أسبوعا في فندق 4 نجوم شاملة وجبتي الإفطار والعشاء حوالي 500 دينار للشخص الواحد. وتقول عطاف التي يبلغ دخلها 300 دينارا شهريا إنها تتدبر أمرها من خلال المشاركة في جمعيات "فأرمي 100 دينار في هالجمعية وأجمعها في الصيف وأستمتع بها."

وإن لم يختر ميسورو الحال الاصطياف في الخارجـ فإنهم يقضون معظم الليالي في نوادي عمان ومطاعمها. منار، تقول إنها تخرج كل يوم تقريبا مع صديقاتها إلى المقاهي والمطاعم التي تراوح تكلفة تناول الكابتشينو أو الكوكتيل فيها من 3 إلى 20 دينارا بحسب المكان.

أما أيام الجمع، فقد اعتادت عائلة منار في الصيف أن تجتمع في مطعم خارج عمان، في السلط أو مادبا أو البحر الميت، لتناول وجبة تكلف الشخص الواحد 10 دنانير. وتقول منار إن هذه الاجتماعات بدأت تتعثر في الآونة الأخيرة بسبب ارتفاع الأسعار.