العدد 34 - بورتريه
 

محمود الريماوي

أمضى فهد الفانك حياة حزبية في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي استغرقت 16 عاماً، خرج منها متخففاً من الجيشان العاطفي، والاحتشاد الذهني الذي يميز الحزبيين. يأخذ عليه خصوم له، وهم ليسوا قلة، أنه ضحى بالحزب وتخلى عنه، وليس في كتاباته المنشورة ما يرد على هذه الاتهامات، غير أنه بقي، للحق، قومياً على طريقته: فقد أصبح عراقي الهوى، وداوم على هواه هذا حتى بعيد انهيار النظام العراقي السابق. لم يعرف عنه أنه قد أفاد من أعطيات نظام الرئيس الراحل صدام، واحتفظ بمنظور مفاده أن العلاقة مع النظام السابق مصلحة أردنية، وأن قدرات الجيش العراقي رصيد للأمة العربية. أما ديكتاتورية النظام السابق فلا ينكرها، ويعتبر أنها شأن يخص العراقيين.

حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي لم يقدم فهد الفانك (74 عاماً) نفسه معلقاً سياسياً، فقد انصرف قبلئذ للكتابة في الشأن الاقتصادي في "الدستور"، و"الشعب" ثم في "الرَّأيْ". يعود لأبي جهاد الفضل في التأسيس لصحافة اقتصادية، فقد عمل محرراً ومسؤول صفحة أسبوعية في البداية، لولا هذه الطريق التي شقها الفانك، لكان الاهتمام بالشأن الاقتصادي في الصحافة المحلية قد تأخر، ولما تمتع بالسوية التي يتمتع بها.

ما زال الفانك يخوض في القضايا الاقتصادية، لكن مع اهتمام ملحوظ بالكتابة السياسية التي تأثرت بأدائه وطريقة تناوله للمسائل الاقتصادية : الواقعية، ومفاهيم الربح والخسارة، والاحتكام الى الأرقام والوقائع، هي بعض منطلقاته. الوضوح ودقة التعبير ونبذ الإنشاء وتفادي التكرار، هي بعض أدواته الأسلوبية. وهو ما يجعل مقالاته طيعة للترجمة (خلافاً لعشرات الأعمدة)، لعله تأثر في ذلك بمهنة التدريس التي زاولها في بلدته الحصن في مقتبل حياته المهنية.يقبل خصومه على قراءته كحال المعجبين به و المحايدين.

يعارض المعارضة دون أن يتخلى عن قناعاته في الديمقراطية، ينتقد الحكومات بمرارة وجرأة (يزيد منها كونه يكتب في صحيفة شبه حكومية) لكنه ينتقد من داخل البيت كمستشار يعهد لنفسه بمهمة المراقبة والتصويب. لا يبالي باتجاهات الرأي العام (باستثناء الموقف من العراق) وينعته العديد من زملائه ممن هم في حكم تلامذته بأن المخالفة والاتجاه عكس التيار تستهويه.

لم يتوزر ولم يحظ بمنصب حكومي عال باستثناء عمله مديراً مالياً في الملكية ( شركة عالية سابقاً) وقد فصل من هذه الوظيفة، ويقول ساخراً في مقابلة نشرتها مجلة "اللويبدة "إنه فصل من كل وظيفة تقلدها، الى أن عمل كاتبا يومياً في "الرَّأيْ" ثم رئيساً لمجلس إدارتها، فزال النحس عنه..

رئيسا الوزراء السابقان زيد الرفاعي، ومضر بدران، اللذان بالكاد كانا يتفقان على شيء واحد، التقيا على منعه من الكتابة في الثمانينيات. كان يكتب بأسماء مستعارة في تلك الأثناء منها "المحرر الاقتصادي".من رؤساء الحكومات المفضلين لديه كما تنم كتاباته : عبدالكريم الكباريتي، ومعروف البخيت. دون مخاصمة رؤساء آخرين.

لا يصنف نفسه في أية مدرسة سياسية أو فكرية، ربما إمعاناً في تحيير قارئه!. فهو يميل بقوة الى الرياضة الذهنية، والتشكيك بما يعتبر مسلمات شائعة وحتى تفكيك المقولات المستقرة. مع ذلك فهو ليبرالي اقتصادياً وفكرياً، وأقرب الى موقع المحافظ المتنور والنقدي في الشأن السياسي. يقف ضد بعض الأعراف والتقاليد الاجتماعية كأداء واجب العزاء(حمل شوال سكر)، لكنه يمنح دوراً سياسياً لبنى اجتماعية تقليدية.. نكاية بالقوى الحديثة!.

مرحلة التحول الديمقراطي حفزته على الخوض في السياسة بعد تجربة مرة في مرحلة الأحكام العرفية اعتقل أثناءها وتقدم في البداية باعتباره ممثلاً بارزاً للوطنية والهوية الوطنية، وأقلع عن ذلك بعدئذ تاركاً استكمال المهمة لجيل جديد من معلقين متحمسين، وهو ما حدث. لم تشغله قضايا المواطنة، والوحدة الوطنية، والتحديث السياسي إلا على نطاق ضيق وعلى طريقته، واعتبر مثلاً أن "الأجندة الوطنية "غير مقبولة لدواع منها ما تتيحه الأجندة في حال الاسترشاد بها واعتمادها، من التقريب بين سائر المواطنين في الحقوق والواجبات (العبارة الأخيرة ليست له). لديه براعة مشهودة في مخاطبة المحافظين والمتحررين على السواء كواحد منهم، مع ما يتخلل ذلك من مفاجآت ليست في الحسبان بين آونة وأخرى.والغالب أن أبا جهاد يقاوم الضجر ككاتب، فيلجأ بين الحين والآخر خاصة في أيام الجمع لتدبيج مقال يحمل آراء مثيرة. كالحديث عن الأسهم وبالتحديد عن سهم ما، تاركاً بعض المعنيين في حيرة ما إذا كان حديثه يفيدهم أم لا.

لم يتول منصباً حكومياً كبيراً لكنه ينسج علاقات منتقاة مع مسؤولين مثل وزراء مالية سابقين، تمكنه من الاطلاع على معلومات مهمة يستند إليها في عموده اليومي.يعتبره البعض كاتباً شبه حكومي، لكن أياً من الحكومات لم تجذبه إليها، فهو لا يترك أمراً دون مناقشته وتفليته، والتشكيك ببعض جوانبه وتفاصيله بما يجعل الحذر منه وأحياناً التطير منه سيد الموقف الحكومي. من الغريب أن أبا جهاد يذهب الى أنه لم يفز بشيء كبير في حياته مقارنة ببعض معارفه في حياتهم السياسية. رغم أن نفوذه المعنوي أكبر من نفوذ بعض الوزراء، وراتبه أعلى منهم.

جدلي من طراز نادر : ديكارتي كما يصفه البعض، سفسطائي مولع بالبرهنة على الشيء وعكسه، كما ينعته آخرون وهؤلاء قلة. وقد كتب ذات مرة أنه لا ينكر وقوعه أحياناً في التناقض، ويفسر ذلك باختلاف الظروف التي تتم فيها الكتابة وتباين الأولويات بين مرحلة وأخرى. باعترافه هذا يجمع بين روحية الفنان، وواقعية السياسي، ومهنية الكاتب. وذلك مقارنة بكتاب لا يأتيهم الباطل من أية جهة، ويعتبرون أنفسهم زعماء سياسيين وقادة للرأي العام، فيما الرأي العام بأبسط تجلياته ومظاهره هو من يقودهم، لا يتورع بعضهم عن الكتابة بضمير المتكلم. الفانك يعجبه بعض هؤلاء.

مع خلافيته لا يخاصم أبو جهاد أحداً .لم يعرف عنه ارتفاع الصوت ولا حدة الطبع أو الغلظة في القول.يتمسك بمبدأ الحوار والجدل. يتمتع بشجاعة التراجع حين يسمع من محادثه رأياً منطقياً أو تصويباً دقيقاً. ينتقد نفسه في مقال ما قائلاً إن" الأرقام أو المعلومات الورادة في تعليق الأمس تبين له أنها غير صحيحة"..احترام الحقيقة أفضل برهان على احترام القارىء، من كاتب يحترم ذاته ولا ينفخ بها.

فهد الفانك: فن السباحة عكس التيار
 
10-Jul-2008
 
العدد 34