العدد 34 - اقتصادي
 

مازن مرجي

منذ بدأ الأردن في تطبيق برامج التصحيح الاقتصادي أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وهي برامج مستمرة حتى الآن رغم الإعلان عن "تحرج الأردن من البرنامج في العام 2003. كانت هذه البرامج موضع بحث ومناقشة وحوار، وأحياناً اتهامات متبادلة بين الحكومات المتعاقبة من جهة والتي قامت بتنفيذ تلك البرامج تحت إشراف وإدارة وتوجيه خبراء البنك وصندوق النقد الدوليين اللذين اشترطا على الأردن تطبيق إصلاحات وإجراءات مالية واقتصادية قاسية، وبين النواب وممثلي القطاعات الاقتصادية، والعمالية، والشعبية إضافة إلى الأحزاب والنقابات من جهة أخرى.

اليوم، وبعد مرور ما يقارب التسعة عشر عاماً على بدء تطبيق تلك البرامج التصحيحية، ما زالت هذه البرامج موضع انتقاد وتشكيك بأنها قدمت حلولاً حقيقية لمعضلات ومشاكل الاقتصاد والتي ينظر إليها المنتقدون على أنها أمراض مزمنة لا سبيل للفكاك منها، كمشكلتي الفقر والبطالة وبقاء نسب النمو الاقتصادي مرواحة بين الأرقام السالبة في سنوات عدة أو الأرقام الايجابية التي (وصلت إلى أكثر من 8 لتعود وتتراجع إلى 6 بالمئة، ويتوقع أن تقل عن 5،5بالمئة العام 2008).

وهذه النسب الأخيرة قد توحي بنمو جيد، إلا إن هذا النمو كان يتلاشى أثره الايجابي بسبب ارتفاع نسب النمو السكاني التي لا تقل عن 2.7بالمئة في غالب الأحيان ونسب التضخم التي وصلت إلى 12.7 بالمئة في النصف الأول من العام 2008 وهي مرشحة لتجاوز نسبة 15بالمئة .

الحكومات من جهتها، ظلت تدافع عن تلك البرامج والإجراءات التصحيحية بقولها إنها، أي البرامج، نجحت وحققت النتائج المرجوة منها، وتدلل على هذا النجاح بالاستقرار النقدي ووجود احتياطيات نقدية ايجابية تقدر الآن بحوالي الخمسة بلايين دولار، إضافة إلى تقليل نسبة المديونية إلى الناتج المحلي الإجمالي، وبأنها خفضت نسبة العجز في الموازنة العامة (عاد للارتفاع في موازنة 2008)، كما تستشهد الحكومة بما حصلت عليه من شهادات تقدير وإشادة من جهات دولية متعددة تشيد وتثمن ما حققه الأردن من نتائج، وأنه لذلك أصبح يعتبر قصة نجاح اقتصادي ونموذجاً يحتذى من قبل دول العالم الأخرى.

من جانب آخر، رغم تراجع نسبة وقيمة الدين الخارجي من الدين العام، والبالغ حالياً حوالي 7،5 بليون دينار، وذلك نتيجة قيام الحكومة بشراء ديونها لنادي باريس بخصم 11 بالمئة، إذ تم دفع ما يقارب 2،1 بليون دولار (2،5 بليون دولار مع قيمة الخصم) وذلك عبر استنزاف آخر دينار في صندوق الأجيال القادمة (التخاصية) وعبر بيع ميناء العقبة لإحدى الشركات الخليجية، فإن الدين الداخلي ارتفع في الوقت ذاته بما لا يقل عن بليون دينار نتيجة التوسع الكبير في النفقات العامة وغيرها من سياسات اقتصادية غير حصيفة.

مما تقدم، نعتقد بأن النجاحات التي تحققت بسبب تطبيق برامج التصحيح المختلفة، بخاصة في مجال تحسن عدد من المؤشرات الكلية للاقتصاد الأردني، التي لا ينكرها أحد، جاءت كنجاحات قاصرة عن أحداث أثر ملموس ينعكس على حياة المواطنين إيجاباً، وعجزت في إيجاد مناخ اقتصادي، واستثماري محفز تزداد معه فرص العمل بصورة واضحة وتتحسن مستويات الدخل لشرائح المواطنين المختلفة، إذ إن ما حدث هو تراجع مستويات الدخول وتآكل القدرات الشرائية للمواطن، كما اتسعت الفجوة ما بين الدخول والنفقات للأسرة الأردنية.

من جهة أخرى، لم يؤد مثلاً جذب الاستثمارات المباشرة التي بلغت في العام 2007 حوالي 2،2 بليون دينار أي نجاح يذكر في توليد فرص العمل المفترضة ولم تنخفض نسبة البطالة عن نسبة 13،1بالمئة التي تعتبر، وبكل المقاييس العالمية عالية جداً، وبقيت نسب الفقر الجاثم على صدور شريحة كبيرة من المواطنين عالية تتراوح بحسب الأرقام الرسمية ما بين 14 -15بالمئة (قامت دائرة الإحصاءات العامة بتغييرها لتنخفض إلى حوالي 13بالمئة مؤخراً وذلك استناداً إلى دراسات ومسوحات يحوم حول دقتها الكثير من الشكوك)، وليبقى الفقر المدقع هو المعيق الرئيس لحياة أكثر من 770 ألف مواطن، يعطل طاقاتهم ويغربهم عن مجتمعهم ويعزلهم في بؤر متناثرة على مساحة الوطن، يعيشون فيها أسرى للجوع والحرمان وقلة الحيلة، وتحت رحمة القليل مما تقدمه برامج المساعدة المختلفة مثل صندوق المعونة الوطنية وصندوق الزكاة وغيرها.

لقد اختل، نتيجة لما فرضته برامج التصحيح هذه، التوازن بين دخول المواطنين والعبء الضريبي، حيث قلت نسب الضرائب على الشرائح الغنية متمثلة بالشركات الكبرى، ويجري هذه الأيام تخفيض آخر على ضريبة الدخل المفروضة على البنوك لتصبح 25بالمئة بعد أن كانت 35 بالمئة في محاولة غير سليمة من الحكومة وأصحاب رؤوس الأموال داخل الحكومة وفي البرلمان لتوحيد ضريبة الدخل على القطاعات المختلفة (مال وخدمات وصناعة وسياحة وغيرها)، كما أن القوانين الضريبية تحابي الأفراد من ذوي الدخول المرتفعة جدا عبر الإعفاءات المختلفة والثغرات القانونية، ووسائل الفساد التي تتيح لهم التملص والتهرب من دفع ما يستحق عليهم من ضرائب، في حين زادت الأعباء الضريبية على ذوي الدخل المحدود من موظفي القطاعين العام والخاص نتيجة ثبات مستويات رواتبهم وتآكل قدراتهم الشرائية.

ليس هذا وحسب، فقد فرضت ولأول مرة في تاريخ الأردن ضريبة جديدة هي ضريبة المبيعات، التي ارتفعت عبر سنوات قليلة وبشكل مطرد حتى وصلت إلى 16بالمئة (تصل إلى حوالي 20بالمئة لبعض القطاعات مثل الاتصالات)، وقد أضافت ضريبة المبيعات هذه، أعباء جديدة كبيرة فوق ما يتحمله المواطن الأردني من أعباء.

كما تضررت شرائح المواطنين من متوسطي أو متدنيي الدخل، نتيجة الرفع الكامل للدعم عن المشتقات النفطية، والتي بلغت أسعارها مستويات غير مسبوقة، كما أدارت الحكومة ظهرها للمواطن عبر رفع الدعم عن كل السلع الأساسية، وبخاصة الغذائية، باستثناء مادة الخبز وقسم من أعلاف الماشية، والذي مهد حالة انفلات شبة تامة للأسعار تركت المواطن كالغريق في بحر عظيم متلاطم الأمواج لا معين ولا مغيث له، كما تخلت الحكومة عن دعم المزارعين بصور مختلفة، فعانى القطاع الزراعي وتراجعت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 3،2بالمئة ، وزادت معاناة المزارعين وبخاصة مزارعو القمح والشعير والحبوب الأساسية في صورة كبيرة.

من جهة أخرى، فعلت ما تسمى بالمناطق التنموية، وبخاصة في محافظة إربد وما يرافقها من طرق دائرية وسكك حديد فعلها، كما ساهمت عملية دمج البلديات وعدم وجود قانون لتحديد استخدامات الأراضي بتدمير الأرض الزراعية وتحويل عشرات الآلاف من الدونمات من أخصب الأراضي الزراعية إلى أراض تجارية وسكنية ينتفع بها عدد محدود من المتنفذين والفاسدين على أصنافهم، لتتحول هذه الأرض في النهاية إلى مجرد سلعة تجارية يتداولها التجار والسماسرة.

أما في ما يتعلق بقطاع الخدمات الأخرى مثل: الكهرباء، والماء، والاتصالات، فقد أصبحت مرتفعة في أسعارها بشكل ملموس، رغم أن الخدمة ما زالت وبصورة كبيرة متدنية المستوى، فما زال التيار الكهربائي ينقطع وبشكل شبه يومي في الكثير من مناطق المملكة، وما زالت حصة المواطن من المياه منخفضة، أما الاتصالات فقد شهدت أيضاً ارتفاعاً في أسعارها رغم خصخصة هذا القطاع. كما أدى دخول الهواتف الخلوية إلى حياتنا إلى فتح باب آخر للصرف لا يغلق، يهرب منه جزء كبير من دخل المواطن الذي تحول بفضل الدعاية والتسويق المتقن إلى مستهلك يصرف دون وعي، فاستحق تهمة الجهات المانحة والحكومة بأنه لا يعاني من فقر أو بطالة بل هو ميسور مبذر، وعدد أجهزة الخلوي بحوزته شاهد على ذلك.

من جانب آخر، لم يؤد تحسن المؤشرات الكلية للاقتصاد إلى تخفيض حجم المديونية، إذ ما زالت المديونية، كرقم مطلق، كما هي، بل زادت، حيث عدنا إلى الاقتراض من جديد. أما في ما يتعلق بالاستثمار، والذي حققت بيئته تحسناً ملموساً في التشريعات والتسهيلات والإعفاءات والحوافز المتعددة، فقد بقيت نجاحاته محدودة، ولم يصل ما خلقته الاستثمارات المقامة من فرص عمل وما جذبته من رؤوس أموال وما أنتجته من صادرات إلى الحد الذي يكون هناك نوع من التوازن بين مخرجات الاستثمار هذه وبين ما يحتاجه الاقتصاد الوطني من فرص عمل وتحسن في مستوى الدخل، ما يساهم في التخفيف من وطأة البطالة والحد من معضلة الفقر من جهة أو ما يقلل من نسبة العجز الدائمة في الميزان التجاري من جهة أخرى.

علينا أن نتوصل إلى نتيجة واحدة مفادها ضرورة إعادة التفكير في أولوياتنا التنموية إن كانت سياسية أو اقتصادية، عندها سنجد أنه لا بد من إتاحة الفرص أمام أفكار خلاقة جديدة لتظهر وتطفو على السطح، ليتم مناقشتها واعتماد ما هو صالح منها وقابل للتنفيذ، كما أنه لا بد لنا من استغلال كل ما يتوافر لنا من موارد بشرية ومادية بالصورة المثلى للمساعدة على تعظيم الإنجازات.

“التصحيح الاقتصادي” نجاحات بالأرقام وتنمية مفقودة في الواقع
 
10-Jul-2008
 
العدد 34