العدد 34 - أردني
 

حسين ابورمّان

تأخرت الحكومة في فتح حوار واسع وشفاف يسهم في تنفيس الاحتقان الداخلي الذي تشكل خلال الأشهر الأخيرة، ما حدا بالملك عبد الله الثاني أن يتصدى لهذه المهمة في مقابلة غير مسبوقة مع "بترا"، اضطر فيها إلى وضع نقاط على حروف كثيرة "ليس من عادتي أن أناقش تفاصيل القضايا على هذا المستوى، ولا أنوي أن اجعل هذا نمطاً متبعاً في المستقبل".

الأوساط السياسية والإعلامية في البلاد، انشغلت ليس فقط في تحليل مضامين المقابلة الملكية فحسب، وإنما البحث كذلك عن انعكاساتها المحتملة على السياسات الحكومية تجاه العديد من الملفات. هذا الأمر لم يكن بحاجة إلى تكهنات بعيدة، فالملك الذي شدّد على الشفافية في كل مفاصل المقابلة، مارس الشفافية بنفسه، وقال بصريح العبارة كل ما ارتأى أنه ضروري.

مسألة أساسية أولى لرؤية المشهد على حقيقته، تكمن في النقد الذي وجهه الملك للحكومة ولإعلامها تحديداً: "لا شك أنه كانت هناك أخطاء ارتكبت في استراتيجية الإعلام والاتصال وفي تفسير ما حدث".

إن الملك الذي اختار مفرداته في المقابلة بعناية فائقة، قصد بكل تأكيد استخدام مفردتي الإعلام والاتصال، لأنهما ينطبقان على مسمى الحقيبة الوزارية ذات العلاقة.

إذا أخذنا القضية التي شغلت الرأي العام أكثر من غيرها وهي مسألة التوجه لبيع بعض الأراضي المقامة عليها القيادة العامة الجديدة والمدينة الطبية، لوجدنا أن هناك منهجين حكما الأداء الحكومي: موقف رئيس الحكومة نادر الذهبي الذي ظل دقيقاً في التعبير عن الوضع، وموقف وزيرالدولة لشؤون الإعلام والاتصال الذي كمّن يغطي الشمس بغربال، جعل من نفي الموضوع جملة وتفصيلاً أسلوبه المفضل، وبقي على هذا الوضع حتى بُِِعيْد دخول وزير العمل باسم السالم على الخط، حين تحدث عن خطط الضمان الاجتماعي الاستثمارية التي فنّدت أقوال جودة.

الذهبي ركز منذ البداية على الموقف المبدئي من مسألة بيع الأراضي، إذ التقى مجموعة من الإعلاميين في فندق حياة عمّان، وتحدث إليهم في هذا الشأن، موضحاً أن فكرة البيع واردة، وأنها قد بحثت فعلاً، لكن لم يتم البت في الموضوع لغاية تاريخه. كما نقل عنه قوله: "ليس من المعقول أن نجلس على أراض تساوي البلايين، ونهمل فرص الاستفادة منها". ربما كان الأجدى، عقد مؤتمر صحفي لعرض هذا الأفكار. لكن رئيس الوزراء عاد فقدم رؤية أكثر تكاملاً للموضوع في اللقاء مع النواب يوم الثامن من أيار/مايو الماضي.

هذه المعلومات كان يمكن أن تهدّىء من الإشاعات، وأن تمهد لحوار أكثر عقلانية، لولا أن الوزير جودة كان ما زال ينفي في لقائه الأسبوعي مع الصحافة ووسائل الإعلام، وجود خطط "لغاية الآن" لبيع أي من المناطق التي جرى الحديث عنها.

بعنوان "تعزيز الشفافية أم إضعافها: جودة ينفي والسالم يؤكد"، نشرت "ے" تحقيقاً في عددها الصادر في الأول من أيار/مايو الماضي، أمام إصرار جودة على نفي كل شيء، وتأكيده في البرنامج الإذاعي "اسألوا الحكومة"، بأن "القول ببيع جزء من أراضي الدولة لا يعدو كونه إشاعات لا أساس لها من الصحة"، فيما كان وزير العمل يصرح بصفته رئيس مجلس إدارة مؤسسة الضمان الاجتماعي في البرنامج التلفزيون "ستون دقيقة"، بأنه سيتم إنشاء شركة تقودها مؤسسة الضمان، وأن الشركة المنوى إنشاؤها ستقوم بتحويل أراضي القيادة العامة في دابوق ومساحتها 500 دونم إلى مركز أعمال ليكون كمكاتب إدارة لعمليات الشركات التي تعتزم إقامة استثمارات في المناطق التنموية لا سيما في إربد والمفرق.

مسألة أساسية ثانية تساعد على رؤية المشهد على حقيقته، عبّر عنها الملك بقوله "إنني اشعر بصدمة وخيبة أمل كبيرة بسبب المستوى المتدني للجدل الدائر في بعض الأوساط النخبوية والإعلامية".

برغم أن الأردن يتمتع بمستويات عالية من التعليم ومن حملة الشهادات العليا من شتى الاختصاصات، وحقق إنجازات يعتد بها في عدة ميادين، وبرغم أن لديه بنية تحتية جيدة في مجال الصحافة والإعلام، تؤهله لأداء متميز، فإنه لا جدال في أن مستوى الجدل في أوساط النخب بمختلف بمكوناتها، كان متدنياً حقاً. يعود ذلك إلى خلل تراكمي في بنية الحياة السياسية وتطورها. هذا الخلل يعزز "بطالة النخب المقنعة"، و"كسلها". ففي ظل هذا الوضع، تستشري في أوساط النخب "نظرية المؤامرة"، وإطلاق الأحكام دون تمحيص، والابتعاد عن تحري واستقصاء الحقيقة في أمور حياتنا.

ويرتبط بالخلل في تطور الحياة السياسية، أن المؤسسات التمثيلية التي يفترض فيها أن تمثل جمهوراً محدداً كالنقابات المهنية والعمالية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، أو تلك التي يفترض أن تمثل الشعب بأسره، أنها أقرب إلى تمثيل ذاتها أكثر من تمثيل جمهورها أو تمثيل الشعب. علاوة على ذلك، ففي حال مجلس النواب، غاب الدور الرقابي الفعال على أداء الحكومة، وتحول المجلس إلى جزء من حالة التصعيد وجلد الذات، وأجاز نواب لأنفسهم أن يتحصنوا بادعاءات عاطفية أو وطنية لركوب الموجة الشعبوية.

في خضم هذا المعترك، أحبط مجلس النواب فرصة دمقرطة قانون الاجتماعات العامة، ما يضاعف من مصاعب تكريس الشفافية كأداة أساسية من أدوات الحوار الوطني، ويعيق تطوير الحياة الديمقراطية.

بنية مجلس النواب الحالي، تشكل عقبة أمام الإصلاح السياسي المنشود. لذا يمثل إقرار قانون انتخاب جديد ضرورة وطنية ملحة، من أجل بلورة نخب اجتماعية وقيادات وطنية تؤمن بالتغيير وتساهم في تحقيق نقلة نوعية في حياة البلاد السياسية على صعيد الفكر والممارسة.

في الجانب الإعلامي، هناك دائماً مجال لتطوير الأداء والارتقاء بمهنية العاملين من خلال التدريب وتطوير القدرات.

الملك الراحل، الحسين رحمه الله، اقترح في لقاء مع رؤساء تحرير الصحف اليومية العام 1991، بأن يقتطعوا قسماً من أرباح مؤسساتهم لإنشاء مؤسسة تعنى بتدريب الصحفيين.

الملك عبدالله الثاني، أعلن من جهته، يوم الأحد الماضي عن "إنشاء وتمويل صندوق خاص لتدريب ودعم الصحفيين وتأهيلهم وتنمية قدراتهم النظرية والعملية بهدف الارتقاء بمهنة الصحافة في المملكة".

وفي لقائه مع نقيب الصحفيين عبد الوهاب زغيلات، أكد الملك دعمه للحريات الصحفية، وأعرب عن أمله في أن "تترافق الحرية مع الارتقاء بالمهنة بصورة تمكن العاملين فيها من أداء عملهم بكفاءة واحتراف". كما أكد دعمه لجهود نقابة الصحفيين الهادفة إلى تمكين الصحفيين من "التعامل مع الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي من دون الحد من الحريات وتوفير فرص حقيقية لهم في التدريب والتأهيل".

الشق الاخر من المعالجة المطلوبة، يتطلب أن يتم التركيز على الإصلاح السياسي الذي من شأنه أن يعيد الاعتبار للمؤسسات الجماهيرية والتمثيلية من خلال أنظمة انتخابية تكرس التعددية والمشاركة. وليس هناك من حلول سحرية يمكن أن تنهض بالوضع خارج نطاق هذا المسار الإصلاحي الذي فقد الناس الثقة بتوافر الإرادة السياسية لدى الحكومات لإنجازه.

نشير أخيراً إلى أبرز الاستخلاصات التي شدّد عليها الملك بشأن موضوع بيوعات الأراضي: "إن الجدل يجب أن لا يتركز حول ما إذا كان للحكومة الحق في بيع أراضي الدولة أو أي أصول أخرى تملكها الدولة، لأنه من الواضح أنها تملك مثل هذا الحق لبيع الأراضي. و"لكن السؤال يجب أن يتركز حول كيفية استعمال عائدات مثل هذا البيع، وما إذا كانت العملية شفافة".

لا بديل عن الشفافية مدخلاً مناسباً للحوار الوطني
 
10-Jul-2008
 
العدد 34