العدد 34 - أردني | ||||||||||||||
خليل الخطيب بعض المفكرين يقيس مدى تحضر الشعوب بمدى انتشار القراءة بين أفرادها. وقديما قيل: "قل لي ما تقرأ، أقل لك من أنت!" وهي عبارة مازالت تنتقل من جيل إلى جيل، لتعبر عن أهمية القراءة في تكوين الشخصية الإنسانية. هذه العبارة تنطبق على الشعوب التي تشير نوعية الكتب التي تختارها إلى هويتها الحضارية، فماذا يقرأ الناس عندنا؟ سعدي البس، المدير التنفيذي لدار الشروق للطباعة والنشر، يتحدث عن "انحسار شديد في عادة القراءة بين الناس، حتى في المعارض فإن المبيعات أصبحت هزيلة لا تستحق الذكر، فنحن نذهب إلى بعض المعارض بسبعين صندوقاً من الكتب لنعود بها دون نقص يذكر." وربما يرى البعض فيما يقوله البس إشارة إلى عملية البيع، وهي جزء من عملية القراءة، ولكنها تختلف عنها في النهاية، فبيع الكتب لا يعني بالضرورة القراءة التي تعني، الاطلاع والثقافة. ويتفق مع البس في مقاربته للموضوع مدير مكتبة الجامعة المتخصصة في بيع الكتب الأكاديمية والقرطاسية مازن القطب: "الطلاب يأتون لشراء الكتب المقررة عليهم من قبل الأساتذة." ولكن الشباب الجامعي هو أحد عناوين القراءة، ليس قراءة ما هو مقرر فقط، بل والقراءة الحرة من أجل المعرفة والثقافة. يوضح القطب: "عندما يأتي بعض الشباب لشراء كتب من أجل القراءة، فإنهم يشترون الكتب التراثية وكتب الأبراج، ولا يهتمون بقراءة كتب الأدب والفكر والسياسة، كما كان الأمر قبل عشرين عاما، حيث كانت كتب الأدب وبخاصة الروايات مطلوبة بشكل كبير." أما محمد السكري، مدير مركز الأخوة للخدمات المكتبية، وهو أشبه ب"دكان" غير متخصص ببيع الكتب، فيذهب أبعد من ذلك، إذ يبين "زبائننا يقبلون على شراء المجلات الترفيهية، ومنهم من يقبل على مجلات الأزياء والموضة والتجميل، أما المجلات السياسية والفكرية، فإننا لا نطرحها للبيع لأن أحداً لا يشتريها منذ أكثر من عشر سنوات." أما بالنسبة للصحف المحلية فإن الصحيفة الرائجة هي "الرأي"، فنحن نبيع منها عشرة أعداد يومياً، تأتي بعدها "الغد"، وذلك بحسب سالم دلل الموظف في مكتبة سليكس التي تقع مقابل الباب الرئيسي للجامعة الأردنية". نرمين أسعد طالبة الإدارة في جامعة عمان الأهلية ترى أن "عهد قراءة الكتب قد مضى من دون أن يمضي عهد القراءة، فالشبان يقرأون ولكن من خلال الإنترنت." زميلها ياسر الهدهد يضيف ساخرا "أنتم الكبار تعتقدون أن شبان هذه الأيام جهلة ولا يقرأون. ما الفرق بين أن تقرأ بواسطة الإنترنت أو من كتاب؟ أعتقد أن نظرتكم إلى هذا الأمر متخلفة." عن أهم الأشياء التي تقرأها عبر الإنترنت تقول أسعد: "أقرأ ما يتعلق بدراستي أولا، لكنني أدخل لقراءة بعض المواقع الترفيهية، وفي أحيان أخرى أدخل في حوارات مع أناس من مختلف بلدان العالم." اختصاصي علم الاجتماع إسماعيل الزيود يرى أن رواج كتب الخرافات، كالأبراج وغيرها، يعكس إحساسا بالقلق عند الناس تجاه المستقبل، وبخاصة مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها المجتمع الأردني. أما بالنسبة لقلة الاهتمام بالقراءة فيعيده الزيود إلى انشغال الناس بأعمالهم، وإلى الكلفة العالية للكتب التي لم تعد ميزانية معظم المواطنين قادرة على تحملها. مدير ومالك مكتبة دنديس، شاهر دنديس، له رأي آخر في المسألة؛ فهو يرى أن "الشبان يقبلون على القراءة رغبة في الثقافة." ويؤكد دنديس الذي حوَل مكتبته لتصبح مكتبة إسلامية متخصصة أن "الكتاب الديني يلقى رواجا واسعا بين الشبان." نسرين الخطيب الموظفة في معرض البستان للكتب في الشميساني منذ ست سنوات تلاحظ أن "مبيعات الكتب في تناقص، وأنه قلما يأتي زبون تبدو عليه اللهفة للقراءة كما كان يحدث في السابق." وتضيف الخطيب "معرضنا متخصص بالكتب التي تهم طلاب الدراسات العليا كالنقد والفلسفة، لذلك فإن معظم زبائننا من هذه الفئة." لكن مديرة مكتبة الجامعة الأردنية هند أبو الشعر التي تعمل الآن على تأسيس دار نشر خاصة بالجامعة، ترى أن "الحديث في هذا الموضوع دون وجود أرقام وإحصاءات يبقى بعيدا عن الدقة، ولا يعبر إلا عن مواقف شخصية". وتضيف أبو الشعر "القول إن الناس لايقرؤون غير دقيق". ثم تستطرد موضحة: "عادة القراءة في الحافلات والحدائق العامة تنبع من الثقافة الجمعية لمجتمع ما، فالإنجليز مثلا لا يتنقلون إلا مصطحبين مادة للقراءة بحكم أن الفترة التي يقضونها في الحافلة أو القطار طويلة." وتستدرك أبو الشعر "يمكن الحديث عن تحول في طريقة تعاطي الناس مع القراءة بسبب انفجار المعلوماتية الذي حدث، وبسبب ارتفاع كلفة القراءة وانتشار ثقافة الصورة." أما عن تنمية عادة القراءة لدى الشبان فتلقي المسؤولية على التربية الأسرية والبيئة التعليمية، وتقدم أبو الشعر مثالا من واقع مكتبة الجامعة الأردنية التي تحوي ما يقارب مليون عنوان فتؤكد "نسجل يوميا ما يقارب 10 آلاف مستخدم". تجربة مع القراءة يروي الروائي والقاص إبراهيم زعرور حكايته مع القراءة التي بدأت صدفة عندما وقعت بين يديه رواية – دون كيشوت- لسيرفانتس. هذه الرواية جعلت زعرور يخرج بنتيجة مفادها: "صل وسوف تؤمن"، بمعنى قم بالعمل وسوف تؤمن بما عملت. يتحدث زعرور عن تحوله إلى قارئ جاد خاصة وأن كتاب تاريخ الأدب الذي كان مقررا في المدارس، قبل أكثر من أربعين عاما، كان كتابا جادا إلى حد كبير. أما عن أبناء جيله وعلاقتهم بالقراءة، فيستذكر "أن بعضهم كان يقرأ رغبة في التسلية لقلة وسائل الترفيه في ذلك الوقت، ومحدوديتها." بالنسبة لزعرور فإن القراءة الجادة للأدب العربي والعالمي قادته إلى عالم الكتابة، فلم يمض وقت طويل على بدئه القراءة حتى ألف عددا من المجموعات القصصية والروايات منها المجموعات القصصية: آخر الطيور السوداء، ومكان ضيق شديد الضيق. والروايات: ذئب الماء الأبيض، رعاة الريح". ويخلص زعرور إلى القول" نحن شعب تعود أن يقرأ الكتب ليصدقها لا ليناقشها".
** من الممنوع الى الرائج لمكتبة دنديس مكانة خاصة جدا عند جيل من المثقفين، ففي مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ذرع كاتب هذا التقرير شارع سقف السيل بحثا عن هذه المكتبة التي كانت تعرف بأنها خزانة النوادر والممنوعات من الكتب؛ كتب الفلسفة، والسياسة، وأشعار محمود درويش، وأمل دنقل، وأحمد مطر، وروايات حنا مينة، ويوسف القعيد وغيرهم من المبدعين الجادين. عثرت عليها بعد عناء، فإذا بها شقة واسعة تقبع في الطابق الثاني من مبنى قديم، تنبعث منها رائحة الورق المضمخ بالحبر، وتتناثر في أركانها مجموعات من الكتب في كل المواضيع التي يمكن أن تخطر على بال. شعرت حينها أنني عثرت على كنز حقيقي، ووقعت في حيرة من وجد نفسه أمام ألف أمنية قابلة للتحقق بمجرد أن يختار، لكن اختياري كان محكوما بكمية النقود التي في الجيب فاخترت رواية "الاحتقار" للكاتب الإيطالي البرتو مورافيا، ورواية "الحياة جميلة يا صاحبي" للتركي ناظم حكمت، علاوة على نوادر الكتب وبخاصة الممنوع منها. كانت أسعار الكتب في دنديس تقل بنسبة 30 بالمئة عن أسعار السوق، ولذلك أصبحت محجا للطلبة والمثقفين. في زيارة أخيرة لدنديس لإعداد هذا التقرير شعرت بجرح عميق، إذ لم يبق من دنديس التي عرفت وأحببت إلا أسعارها المعقولة، فيما تم استئصال كتب الفكر والأدب والتنوع بحجة ضرورة التخصص، والتخصص الجديد للمكتبة العريقة هو "الكتب الإسلامية". |
|
|||||||||||||