معن البياري

غبشٌ كثيفٌ من رذاذ رطوبة ساخنة ظلّل عدستيّ نظارتي ،ما أن خرجتُ من مطار الدوحة في عصر يوم 2 أغسطس/آب 1995، وكان أول ما اختبرته في أول غربتي في الخليج التي ما زالت مستمرة. مسحتُ النظّارة، ومازحني من كانوا في استقبالي أنا وثلاثة من زملائي كنّا قادمين من عمان للالتحاق بالعمل في مؤسسة واحدة بأن عليّ أن أتكيف جيدا مع الحر الشديد هنا بدت لي مسألة سخونة الجو من عاديّ الأمور، ومن مألوف ما كنتُ سمعته طويلاً عن الحياة في أيٍّ من دول الخليج. لحظتَها، خطر ببالي أنّ المألوف من تصورات شائعة عن إيقاع الحياة هنا في البلد الذي أدخل الخليج لأول مرة فيه ،هو ما سيكون. وهو أيضاً ما سيستجد في الطور الجديد من تجربتي في الاغتراب، وكان الطور السابق في المغرب، في نحو أربع سنوات للدراسة وبعض العمل وشيء من تضييع الوقت. هناك، كانت الحياة غير ما ستكون هنا، هناك انفتاح اجتماعي وحياة سياسية حيويّة وسعة متنوعة جغرافيا، فيما الذي عرفته عن هنا أن ثمّة انغلاقاً اجتماعياً ومحافظة في السياسة ومحدودية في أمور غير قليلة، وإن كانت الصحافة القطاع الذي سأعمل فيه، وألتمس فيه مورداً للرزق يعينني على تيسير أموري التي تشابه أمور كل مغترب في قطر وما يجاورها من دول الخليج، من قبيل الزواج (وهو ما تمّ لاحقاً) وتدبير شراء شقة (وهو ما لم يتمّ). والعجيب في هذا (الوهم) أنّه يفترض أنه لن يكون في وسع من يبقى في الأردن أن ينجز شيئاً، بينما شواهد عديدة تعاكسه تماماً.

هي سنة واحدة في الأردن بين أربعة أعوام اغتراب في المغرب وأعوام اغتراب تالية ما زالت تتواصل في الإمارات، كانت فسحةً زمنيةً بدت وكأنها تهيئ للانتقال من أمكنة تنوعت هناك في غير مسألة، في تفاصيل الطعام والطقس والأزياء والأمزجة، وفي صداقات كانت تتيسر بسلاسة مع مثقفين وكتاب، ومع نساء وبنات، حيث مراكش والرباط والدار البيضاء وطنجة وغيرها، إلى هنا حيث الدوحة فقط وفي جوارها مسيعيد والوكرة، وحيث المجتمع يتألف من مواطنين ووافدين، وأنا من الأخيرين الذين هم أكثر عدداً، وحضور الهنود والباكستانيين، والأفغان، والبنغاليين طاغ بينهم.

عزوبيتي (في حينه) وعملي صحفياً وميلي الشخصي إلى توطيد الصلات الشخصية، جعلت لي صداقات ومعارف وعلاقات زمالة طيّبة مع كثيرين، مصريين، وسودانيين، ولبنانيين، وسوريين مثلاً، وأردنيين، وفلسطينيين أيضاً، وما لا يمكن أن أنساه هو أن معارف غير قليلين، بادروا لإعطائي دروساً في كيفيات التعامل مع أهل هذه الجنسية وتلك، وكنتُ أهزأ من هذا. من شديد ما استغربته نظرة كثيرين أن البلد كعكة، وحصة كل جنسية فيها منتزعة من حصة جنسيات أخرى. ولمّا كانت بقايا ندوب حرب الخليج الثانية ما زالت طازجة بعض الشيء في تلك الأثناء، كانت الثرثرات مسموعة والنمائم رائجة عن بعض الجاليات تجاه بعضها. ومما لا أنساه، أنني كتبت عمودا في الصحيفة التي كنت أعمل فيها عن حبي الشخصي لمصر، وعنوانه «مصر التي في خاطري»، وكانت دهشتي شديدة من فرط إعجاب مصريين كثيرين في قطر به، ليس لذاته، بل لأن كاتبه غير مصري، بل ثمّة من هاتفني للتثبت من عدم مصريتي.

لعلّ الاحتكاك مع العرب الآخرين، المباشر واليومي في العمل وفي الأسواق وفي بنايات السكنى وفي زيارات مدارس الأبناء وفي النزهات المحتشمة، هو الخبرة الأوضح لدى الذين يغتربون في دول الخليج. ومن ذلك أن الصداقات التي تقيمها الزوجات، كنّ موظفات أو لا، وكذلك الأبناء في المدارس والجامعات والنوادي، هي مع «جاليات» عربية مختلفة. وفي موازاة ذلك، ليست إقامة الصداقات والعلاقات الشخصية الوطيدة مع «المواطنين» يسيرة، وليس هنا مقام إيضاح أسباب ذلك.

وهذا مقامي في الإمارات منذ تسع سنوات ضاعف من خبرتي الشخصية تلك، وزاد من هواجسي من أن لا أنجح إذا عدت من مغتربي الراهن في الاعتياد على نمط آخر غير الذي بتّ آلفه كثيرا، فتوصيل الطعام من المطاعم ( على كثرتها ) ميسور، ومحلات السوبرماركت تكاد تفيض عن الحاجة، وثلاثة منها على مبعدة خطوات من منزلي ، والواجبات الاجتماعية الثقيلة إياها في الأردن غائبة. وإلى هذه المزايا، وغيرها كثير، ثمّة استسهال انفاق الراتب على ما له داع وما ليس له داع، وثمّة القروض البنكية شديدة الإغراء، و الاعتياد على دفع فواتير الكهرباء والتلفون والإنترنت بمبالغها التي تزيد حسبتها الشهرية عن ثلاثمائة دينار أردني. وهناك الاعتياد على الاشتياق لإجازة الصيف وأعبائها، والدأب على التجول في مراكز التسوق والمولات التي تتوافر في دبي، وأبو ظبي، والشارقة على الأرقى والأوسع والأكثر تنوعا في مبيعاتها مما في غير بلد في أوروبا. وهناك احتراف العيش مع طنين أجهزة التكييف، والتآلف مع جولات إصلاحها باستدعاء العمال الهنود من محلات الصيانة التي لا حصر لها، وأرقام هواتفها أمامي على بطاقات الدعاية لها التي أصادفها يوميا على باب منزلي، كما كل البشر يصادفونها على أبواب منازلهم.

الإمارات أكثر سعة من قطر، و مدنها تشتهر بالازدحام الشديد في شوارعها الواسعة، وأعداد الآسيويين فيها في ازدياد، وكذلك كل الوافدين العرب، والأردنيون بينهم كثيرون. وسبل الترفيه والتنزه والبهجة والمتعة فيها وفيرة، وأكلاف ذلك صارت باهظة، وعلى ما في إيقاع الحياة من دعة وسهولة، فإن الغلاء الذي يزداد حدّة صار متعبا فيها، وتكاليف المعيشة صارت صعبة. واختتام هذه السطور التي طافت في غير شأن عن «وافدين» هناك بالتأشير إلى هذا الأمر هو للتذكير بوجوب التعاطف مع عشرات الآلاف المغتربين الأردنيين، وغيرهم إن أمكن، في دول الخليج، بدل افتراض أنهم في نعيم وفير، وهذا، وحق الله، غير صحيح ألبتة.