العدد 33 - أردني
 

تمثل تجربة الجالية الأردنية في الكويت حتى العام 1990، حالة فريدة بين هجرات الأردنيين إلى الخارج، فقد ساهم المغتربون الأردنيون في تأسيس الدولة الكويتية الحديثة في مرحلة ما بعد النفط، ومنهم من تسلم فيها بعض أرفع المناصب، فيما توزع الباقون على مجالات الحياة الاقتصادية والعملية كافة. وهناك شكلوا مجتمعا اتسم بالحيوية، ومن خلال تجمعاتهم تلك ساهموا في إثراء التجربة السياسية، والثقافية، والإعلامية الكويتية.

وقد جاء الغزو العراقي للكويت ليكون أشبه بنكبة جديدة لهذه الجالية التي كانت تشهد حالة فريدة من الازدهار.

تقول جمعية المتضررين من أحداث الخليج التي تأسست العام 1991، إن نحو 83 بالمئة من أفراد الجالية أقاموا في الكويت فترة تزيد على عشرين عاماً، ومنهم من زادت إقامته على أربعين عاماً فالهجرة إلى حاضرة النفط بدأت في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وتحديدا بعد النكبة الفلسطينية. وهذا يعني أن أجيالاً من الجالية توالدت في الكويت وساهمت في بنائها. كما تشير الجمعية إلى أن تحويلات الجالية الأردنية قبل أزمة الخليج وصلت 1.4 بليون دولار حسبما أشارت إليه إحصائية البنك المركزي الأردني.

وهذا ما جعل الغزو العراقي للكويت في صيف العام 1990 كارثية على هذه الشريحة ممن خسروا أعمالهم ومنازل عاشوا فيها عقوداً حتى وصلت الخسائر إلى الحلم بتعليم الولد أو تزويج البنت.

**

أم الفهد

تتذكر أم فهد يوم غادرت الكويت بأنه كان يوماً أليماً.

بضحكة المجرب المتمرس في الحياة تقول هذه السيدة الستينية إن "ما صار إلنا في الكويت نكبة، لا والله ألف نكبة!" وتستدرك "إحنا شعب مكافح طلعنا من البلاد سنة 67 وما عاد يهمنا شي." لكن ما حدث في الكويت كان أصعب على عائلة أم فهد، فلم تكن الناس تدري ما حل بها. في غضون ساعات قليلة فقط تغير الحال. تقول أم فهد: "راح أبو فهد الصبح على الشغل في المطار – كان يشتغل نجار في قسم الديكور - وبعد ساعة والا هو راجع." أخبرها أبو فهد أنه وجد جيشاً عراقياً في المطار، وعندما سأل ما الذي حدث رد عليه الجنود "احتلينا المطار." تقول أم فهد "الحمد لله اللي سمحولو يرجع."

انتظرت العائلة حتى تهدأ الأمور "كانت الفوضى في كل مكان وكان الجنود يقتلوا اللي يمسكوه. لكنا حكينا خلينا في البيت نموت في دارنا ولا نموت في الشارع." بعد تحرير الكويت قررت العائلة أن تسافر أم فهد إلى عمان هي وأصغر طفلين – ولد وبنت في الحادية عشرة والثانية عشرة من عمريهما. "جوزي وأولادي الكبار فضلوا يبقوا ع شان ياخدو تعويضاتهم. ما كان عنّا مصاري. وحكولي اسبقينا ودوري النا ع دار." وتتحدث أم فهد عن الرحلة من الكويت إلى عمان مروراً ببغداد. تقول "أمضينا يوم وليلة في الطريق. وكان الوضع صعب خاصة لما وصلنا نقطة تفتيش عراقية." هناك أمرهم العراقيون بأن يظلوا داخل الباص 8 ساعات متواصلة. وتتذكر كيف أراد رجل أن يقضي حاجته ففتح الباب، لكن الجنود انهالوا عليه بالضرب. استمر الصمت في الباص إلا من أصوات أطفال صغار، إلى أن وصلت الحافلة إلى الجمارك الأردنية. وهنا تتذكر أم فهد بكثير من الامتنان شاباً اسمه سمير. "هذا الشاب – الله يطول عمره – عرف شو صار معنا في العراق، وخلاّنا نمشي أول ناس". وصلت أم فهد وطفلاها إلى عمان. وبدأت على الفور بالبحث عن منزل، فاستأجرت واحدا في إحدى ضواحي عمان بـ150 ديناراً.

بعد وقت قصير لحق بها أبو فهد الذي ما يزال من دون عمل بعد أن كان يتقاضى راتباً مقداره 500 دينار كويتي، ناهيك عن أعمال حرة كان يقوم بها بعد الظهر. "لساتنا عايشيين على المصروف إللي بيبعتوا الأولاد من الكويت." أبو فهد لم يحصل من تعويضاته في الكويت أكثر من 3500 دينار أردني.

إلا أن أكثر ما تتحسر عليه أم فهد هو عدم تمكنها من إتمام تعليم أولادها. "وقت الحرب كان إلنا إبن – ذياب- يدرس في أميركا هندسة كهربائية. وربك حميد كانت آخر سنة." أم فهد أوصلت رسالة إلى ذياب أنه لم يعد لدى العائلة ما تساعد به في مصاريف الدراسة وقالت "أبوك ما خلف لك وعمك ما منّوش، وميل على متن ذراعك." أما الابن الثاني سمير، فلم تتمكن العائلة من إرساله للدراسة في فرنسا.

تتذكر أم فهد الكويت بكثير من الحب وتقول "كانت الحياة حلوة. وكثير بشتاق للكويت وبحر الكويت."

**

سامر

كان محمود قد أنهى امتحانات الثانوية العامة عندما احتلت الكويت.

يقول إنه خرج من الكويت في أيام الاحتلال. "خرجنا 8 أنفار – أمي وإخوتي وأخواتي- طلعنا ع الحديدة." تركت عائلة محمود كل شيء، الأثاث والسيارات وحتى الملابس. ولم يتمكن الأب من المغادرة معهم لأنه كان يعمل في شركة البترول وقد أمر العراقيون ألا يغادر من موظفيها أحد.

يصف محمود رحلة العودة قائلا "سافرنا عن طريق السعودية واستغرقت الرحلة 3 أيام." وعندما وصلت العائلة إلى عمان، نزلت في منزل بسيط استأجروه لقضاء عطلة الصيف. "في أول سنة كان الأقارب يدفعوا أجرة البيت من باب رد الجميل لوالدي إللي كان بيساعدهم على الدوام."

طوال عام كامل، كانت العائلة تعتاش على بضعة مئات من الدنانير ادخرها الأب في عمان، بالإضافة إلى معونة الأقارب. يقول "كنا مسلكين حالنا."

بعد عام التحق الوالد بالأسرة. ولم يكن قد حصل على تعويضاته أو على "تحويشة العمر" التي ادخرها في بنوك الكويت. يقول محمود "اضطرينا لبيع أراضي في سحاب وزيزيا بتراب المصاري. كان الدونم ونص بيسوى 12 ألف كنا نبيعه بـ6 آلاف." وهكذا أراد الوالد أن يفتح "مصلحة" سوبرماركت في منطقة مرج الحمام. "حتى المصاري ما كانت تكفي، فاضطرينا مرة تانية نبيع أرض في الضفة".

عمل الوالد في السوبرماركت حتى توفي قبل حوالي 4 أعوام. "كان فيه شعور بالإحباط في العائلة، فالوالد كان يتقاضى راتب 1200 دينار كويتي وفجأة صار ما معاه شيء." أما الأخ الأكبر فكان يعمل في شركة الكيبلات الكويتية مشرفاً ليجد نفسه فجأة عاملاً في سوبرماركت.

مرة أخرى يتحدث محمود عن عدم مقدرة العائلة على إتمام تعليم الأولاد. فبعد أن درس فوج منهم في الجامعات الأردنية – في قسم الحاسوب والأدب الإنجليزي- لم يعد لديها مدخرات لتعليم البقية في عمّان. فاضطر الأب إلى إرسال أصغر ولديه – ومحمود أحدهما- إلى الهند على أساس أنها "أرخص". لكن بالرغم من ذلك، كانت الأعباء أكبر من أن يحتملها الوالد؛ فعاد الشابان إلى عمان من دون أن يتمّا الدراسة.

**

أرقام أردنية كويتية

تقدر منظمات مهتمة بأحوال الأردنيين العائدين من الكويت، عدد الذين غادروا حاضرة النفط على خلفية حرب الخليج 1990، بنحو 300 ألف شخص. فقد كانت الجالية الأردنية/الفلسطينية في الكويت هي الأكثر عدداً بين الجاليات المقيمة هناك، وكانت الأكثر حضوراً، كما كانت إقامتها الأطول، وهو ما جعل خسائرها الأكبر بين الجاليات العديدة التي تضررت من غزو العراق للكويت في العام 1990.

وتقدر بعض هذه المنظمات خسائر الجالية الأردنية المادية بنحو 25 بليون دولار في الحد الأدنى، فهم خلال مدة وجودهم الطويلة هناك، أداروا ثلث الأنشطة الاقتصادية في الكويت، وفقاً للمنظمات نفسها.

كان نصـــيب الأردنيين من صندوق تعويضات الأمم المتحدة التي منحتها للمتضررين من وجودهم في الكويت وقت حدوث الغزو العراقي 1.5 بليون دولار، وهو رقم يرى كثيرون أنه ضئيل مقارنة بحجم الجالية وقوة نشاطها الذي انتهى ذات يوم من شهر آب 1990.

**

أبو محمد

أبو محمد الصيدلاني كان ضامنا لصيدلية ويدير وكالة لشركة أدوية ألمانية. ويحمد الله أنه أثناء الحرب لم يعان كما عانى آخرون ببساطة لأن زوجته اليونانية وأولاده كانوا وقتها في زيارة إلى اليونان.

غادر أبو محمد الكويت أثناء فترة الاحتلال وتمكن من نقل بعض العفش و"الأغراض" معه إلى منزل صغير اشتراه في إسكان الأمير طلال في الزرقاء. يقول أبو محمد "اشتريت البيت في 1984 حتى يكون مكانا يسكن فيه أهلي في الضفة أثناء زيارتهم إلى عمان." أبو محمد قبل تاريخ خروجه من الكويت لم يكن رأى هذا المنزل قط.

يصف الأشهر الأولى من وجوده في عمان بالشديدة والقاسية. فبين ليلة وضحاها بات من دون عمل أو مال. "التعويضات جاءت متأخرة جدا بعد 8 سنوات." بعد مرور عام، اشترى صيدلية "بالدين" فاستدان ألفاً من هنا وألف من هناك وهكذا بدأ.

تمكن أبو محمد من تدريس جميع أولاده في الجامعات، فمنهم الصيدلي، ومهندس الحاسوب، ومنهم من درس الأدب الإنجليزي والتسويق. يقول "الحمدلله رب العالمين، نحن نعيش حياة جيدة، لكننا كنا دائما نطمح أن نعود إلى عمان بوضع أفضل، فقد كان وضعنا المادي والنفسي في الكويت أفضل بكثير."

الكويت، صيف 1990: الجالية الأردنية تخسر ازدهاراً وتفقد مستقبلاً كان واعداً
 
03-Jul-2008
 
العدد 33