العدد 33 - أردني | ||||||||||||||
السجل - خاص في إحدى المقابلات التي أجريت معه، أشار المفكر محمود أمين العالم إلى "هجرتين" قام بهما، في أثناء حياته، وصف الأولى بأنها كانت "هجرة داخلية" والثانية "هجرة خارجية". لم يذكر العالم تفاصيل الهجرتين في تلك المقابلة، لكن من عرف المفكــر وتابع حياته السياسية والفكرية الحافلة، يعرف أنه في الأولى تنقل بين عدد من سجون مصر التي قضى فيها خمس سنوات متصلة، بتهمة الانتماء إلى الحركة الشيوعية المصرية، والثانية كانت هرباً من البلاد، للسبب نفسه، بعد انقلاب الرئيس المصري أنور السادات على الخط السياسي لسلفه جمال عبد الناصر، حيث غادر العالم إلى فرنسا ليقضي في باريس أستاذا في جامعاتها نحو عشر سنوات. المشترك بين الهجرتين اللتين تحدث عنهما محمود أمين العالم هو أنهما قسريتان، فهو لم يختر السجن، مثلما لم يختر العيش في فرنسا. والمشترك الآخر بينهما هو أن الهجرتين تمثلان حالتين نموذجيتين للهجرات القسرية التي تعرضت لها أجيال بكاملها في داخل أوطانها وخارجها، ومنها الأردن. الطابع القسري للهجرة يأتي على خلفية الموقف السياسي الذي يختاره مواطن ما يعارض من خلاله سياسات حكومة بلاده، وإن كان هنالك إجماع اليوم على أن هذا هو أحد حقوق المواطن، في سنوات سابقة كان يعني ثمنا باهظا يدفعه المعارض السياسي، الذي كانت معارضته، تصل في لحظة ما نقطة يصبح عليه عندها أن يغير قناعته، أو يتعرض للسجن، فيمضي في هجرة داخلية لا يعرف متى تنتهي، أو أن يغادر البلاد في هجرة إلى الخارج لا يعرف متى يعود منها، أو يعمل تحت الأرض؛ وهي نوع آخر من أنواع الهجرة الداخلية يتحول فيه المعارض إلى "لا أحد". أعداد كبيرة من السياسيين الأردنيين جربوا أنواع الهجرات هذه، وبعضهم دونها في مذكراته التي كانت الهجرة الداخلية، بشقيها، تحت الأرض، وفي السجون، والخارجي؛ جزءا أساسيا منها. ومن يقرأ مذكرات المعارض اليساري عبد الرحمن شقير التي نشرها في مطلع التسعينيات تحت عنوان: "من قاسيون إلى ربة عمون"، يجد فيه وصفا تفصيليا للهجرات القسرية العديدة التي قام بها خلال فترة الخمسينيات الصاخبة، حين اضطر أكثر من مرة إلى قطع الحدود مع سوريا والهرب من الملاحقة. وخلال هجرته الطويلة تلك سافر إلى موسكو، وألمانيا، ودول أوروبية أخرى حتى استقر به المقام في دمشق التي افتتح فيها عيادة كانت ملاذا للفقراء من المرضى السوريين والفلسطينيين، فقد كانت عيادته قريبة من مخيم اليرموك القريب من دمشق، مثلما كانت عيادته في شارع المهاجرين في عمان في الخمسينيات ملاذا لفقراء الأردن. أما هجرته الداخلية، الاختفاء تحت الأرض بعد إعلان الأحكام العرفية، فقد دونتها بالتفصيل، الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان في كتابها "رحلة جبلية رحلة صعبة"، فقد كان ملاذ المعارض اليساري في فترة تخفيه عام 1957، هو منزل الشاعرة في نابلس. يعقوب زيادين، الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الأردني، سجل تفاصيل هجرته الداخلية التي قضاها في سجن الجفر، في كتابه الشهير "البدايات"، والتي جاءت بعد هجرة أخرى اختفى خلالها تحت الأرض في بيت سري، لكنها لم تستمر طويلا فسرعان ما قبض عليه وأجبر على المضي في هجرة داخلية استمرت ثماني سنوات متصلة. إسحق الخطيب، القيادي السابق في الحزب الشيوعي الأردني، قام بالهجرتين الداخلية والخارجية؛ الأولى في سجن الجفر بين 1958 و1965 والثانية في لبنان بين 1970 و1974، حيث كانت بيروت مقرا للعمل السياسي الثوري آنذاك. الخطيب لم يكن طبيباً، مثل شقير، وزيادين، لكنه يتذكر رفاقاً له في السجن كانوا أطباء، إلى جانب زيادين، مثل عيسى القسوس، خالد حمشاوي، صالح حدادين، وآخرين يحملون شهادات عليا مثل عبد العزيز عدينات الذي كان يحمل شهادة الدكتوراة، وآخرين يحملون شهادة الماجستير في الاقتصاد من الجامعة الأميركية في القاهرة؛ عيسى مدانات وبشير البرغوثي، وكان معه حقوقيون بارزون؛ إبراهيم بكر، ومثقفون مثل محمد أديب العامري وآخرون. هذه الكفاءات رزحت وراء القضبان سنوات طويلة، خسروا خلالها حريتهم، لكن الوطن خسر كفاءاتهم، وخاصة في فترات الخمسينيات والستينيات التي كانت تعز فيها مثل هذه الكفاءات. الأمثلة السابقة تشير إلى فصيل واحد من فصائل العمل الوطني في الأردن، لكنه لم يكن الوحيد، فقد كان هنالك أطباء من حركة القوميين العرب مثل جورج حبش وديع حداد وصبحي غوشة، وكان هناك بعثيون مثل منيف الرزاز والصيدلي أمين شقير وآخرين. حبش وحداد وغوشة والرزاز، قاموا بالهجرتين الداخلية والخارجية، وإن كان جورج حبش وعبد الرحمن شقير، وقبلهما القائد الشيوعي فؤاد نصار، قد أتيح لهم أن يقضوا آخر أيام حياتهم في الأردن، فإن طبيبا مثقفا مثل منيف الرزاز لم تتح له حتى مثل هذه الفرصة. وفي كل الحالات، فإن الوطن خسر هؤلاء، وأعدادا كبيرة غيرهم من الكفاءات. خسر الوطن مرتين؛ مرة حين زج بهم في السجون، ومرة أخرى حين لم يسمح لهم بالبقاء في الوطن. |
|
|||||||||||||