العدد 33 - أردني
 

محمود الريماوي

شهد الأردن على مدى عقود موجات من الهجرة الى الخارج ابتدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر. كحال المجتمعات الفقيرة النازعة للتحرر من ربقة الفقر، فإن الهجرة تحظى بنظرة ايجابية من المجتمع، فالمهاجر يمثل رمزاً للطموح والجرأة وينتظر منه لا أن يعود مبكراً، بل أن «يسحب» غيره من أشقاء وأقارب وأصدقاء. هذه النظرة ما زالت سائدة وتشارك فيها الحكومات، التي تنظر بإيجابية لتحويلات المغتربين واستثماراتهم ولتخفيفهم من الضغط السكاني.

النزعة الى الهجرة على حالها، وتزيد منها الصعوبات الاقتصادية، وغلاء المعيشة. عائلات كثيرة تتطلع أن يقصد ابنها الخريج بلداً ما في المعمورة كي يبني نفسه ويعين عائلته. وفي العرف الشعبي فإن التوجه الى دول الخليج، هو أشبه ب«حق مكتسب». فهناك تراث من الإقامة الطويلة والعمل الموصول في هذه الدول. تقييم سياسات هذه الدول يرتبط، في كثير من الأحيان، بمدى استعدادها لاستقبال أيد عاملة من الأردن. الموقف من احتلال الكويت ارتبط بالموقف من المقيمين الأردنيين هناك. عودة أعداد كبيرة منهم في العام 1991 لم تسر أحداً.

الهجرة الى أميركا وبدرجة أقل الى كندا ودول في أميركا الجنوبية، شكلت ضرباً من الهجرة شبه النهائية. لم تكن بحجم الهجرة الى الدول الخليجية، لكنها شكلت ما يشبه الملحمة لما تحفل به من مغامرة، وبعض تلك الهجرات تمت عبر البحر قبل ظهور وسائل المواصلات الحديثة.

الطبيعة البدوية الغالبة جعلت المجتمع الشرق أردني من أقل مجتمعات المنطقة إقبالاً على الهجرة. فقد كان الانتقال الى العاصمة عمان بمثابة هجرة. ثم تمت هجرة محدودة الى الخليج. ساهم أردنيون مساهمة حاسمة في بناء مؤسسات حكومية وأهلية في دول الخليج.

المجتمع الفلسطيني قبل وحدة الضفتين وقبل نكبة العام 1948 شهد هجرات الى الكويت، والسعودية،،قبل اكتشاف النفط حيث تم على أيدي بعضهم إنشاء مؤسسات تعليمية. ثم تضاعف حجم الهجرات بعدئذ.

أبناء المدن في السلط، وإربد، ومادبا شهدوا موجات هجرة خاصة من الشرائح المسيحية منذ أواخر القرن التاسع عشر. غادر هؤلاء البلاد في أثناء الحقبة العثمانية وكانوا يعرفون في مجتمعاتهم الجديدة بـ«الأتراك». بعض أبنائهم وأحفادهم تواصلوا مع الوطن الأم، وحملوا اسم الأردن الى الخارج، في وقت لم يكن فيه اسم المملكة الهاشمية متداولاً في العالم. بعضهم نجحوا ولمعوا في تخصصاتهم وكانوا بمثابة سفراء. .

الإقبال على التعليم في الخارج قبل نشوء الجامعات الأردنية، أسهم في تشكيل موجات من هجرة لطلبة امتدت إقامتهم في بلاد العالم بعد انتهاء دراستهم.

الظروف السياسية لعبت دوراً في الدفع نحو الهجرة. فترة الأحكام العرفية الطويلة وتحريم الحزبية، دفعت العديدين الى الهجرة في ما يمكن تسميته بهجرة قسرية حرمت البلاد من كفاءة وخبرة هؤلاء.

بعض مكونات المجتمع شهدت «هجرة»، مثل الأرمن الذين تناقصت أعدادهم في ربع القرن الأخير. قلة قليلة من الشركس، والشيشان اتجهت الى بلاد القفقاس بعد تراخي القبضة الروسية. هناك بضع عشرات الآلاف عادوا إلى الضفة الغربية في أعقاب اتفاق أوسلو، أو وفق نظام لم الشمل الذي كان معمولاً به. لا تشكل هذه هجرات بل «إعادة تموضع».

ليست هناك دائرة أو هيئة حكومية أو غير حكومية معنية بحصر أعداد المغتربين وتقصي أحوالهم. يتم إيكال هذا الأمر للسفارات في الخارج. حيث يتم الحصر عبر تجديد جوازات السفر. في السنوات الأخيرة بدأت تتشكل نواد وملتقيات للجاليات الأردنية في دول عديدة في العالم. وهي ذات طابع اجتماعي ولا تمثل بالضرورة جموع المغتربين هنا وهناك، وإن كانت قد سدت نقصاً.

الحاجة ما زالت قائمة للتواصل مع هؤلاء ووضع سياسات بعيدة المدى لربطهم بالوطن، والتفكير بعقد مؤتمرات سنوية ودورية تتخصص كل مرة في مغتربي منطقة جغرافية بعينها. لعل الأمر يستحق مبادرات بهذا الاتجاه من المغتربين أنفسهم ومن يمثلهم مع تسهيلات حكومية، والإفادة من تجارب دول شقيقة مثل: لبنان، وسورية حيث في البلدين وزارة خاصة بالمغتربين. إضافة الى التجارب الغنية لدول المغرب العربي في هذا المجال.

النزوع الى الهجرة ما زال قائماً. التحديات الاقتصادية الصعبة وضيق فرص العمل تدفع بالشبان للتفكير في العمل في الخارج بما يشكل نقطة بداية للهجرة. دول الخليج باتت تستقبل أعداداً أقل نظراً لتأهل قطاعات واسعة من أبناء تلك الدول للعمل، ومع ازدياد عدد طالبي العمل من الدول العربية، والإسلامية، والآسيوية.

أميركا والعديد من دول أوروبا الغربية باتت، منذ الحادي عشر من أيلول، تتشدد في منح أذونات الزيارة والعمل. بهذا بدأت الآفاق تضيق، ما يدفع شباناً للبحث عن دول أخرى على خريطة العالم من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق (المستثمر زياد المناصير بدأت رحلة نجاحه في روسيا) إضافة الى دول في إفريقيا وحتى الصين، فهناك من يطلب العلم والعمل فيها من الأردنيين. علاوة على كندا.

الحراك البشري نحو الخارج يتواصل. ويقوم على قرارات فردية وعائلية. ليست هناك جهة رسمية تخاطب الناس بهذا الخصوص، ولو على سبيل التنبيه من مغبة التوجه الى دول ما، لا تتوافر فيها فرص عمل. تعويضاً عن صعوبات الهجرة ينصرف بعض الشبان للإبحار في العالم عبر شبكة الإنترنت. المسافات تقلصت حقاً لكن عبر الموبايل، والستلايت والإنترنت. في العالم الواقعي الحدود ما زالت تنتصب وتشتد سماكتها. حتى أجور السفر ورسوم التأشيرات تضاعفت.

الهجرة ليست حلاً، ولا تمثل مشكلة لبلد يشكو الجيل الشاب فيه من البطالة، وكما هو حال السياحة الى الأردن فهي رافد مهم، لكن اقتصاداً سليماً ومزدهراً لا يقوم على السياحة أولاً.

هناك من يلاحظ أن هجرة أردنيين الى الخارج، تتواكب مع تدفق عمالة وافدة الى الأردن. ذلك يظهر حجم الخلل وربما التشوه في الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

الحل يكمن في تنمية شاملة متوازنة. لكن أحداً لا يمتلك الوقوف في وجه الخيارات والطموحات الفردية، أو دعوة الشبان لانتظار فرص عمل قد تتحقق ذات يوم، وقد لا تتحقق. المطلوب الإفادة من فرص الهجرة والحد من الهجرات العشوائية، وأن يجد المغترب وسيلة اتصال وقنوات تواصل مع وطنه،عبر السفارات الأردنية بأن تكون هذه حقاً بيوت الأردنيين في الخارج.

بين الطموح والضرورة: الهجرة “شر” لا بد منه ..عمالة وافدة إلى الأردن ومهاجرون أردنيون إلى الخارج
 
03-Jul-2008
 
العدد 33