العدد 32 - كتاب
 

يتصور الإنسان السوي أن الجريمة لا وجود لها. فهو ينفر أشد النفور منها، لم يقترفها يوماً ولا يفكر بارتكابها، وغالباً ما يكون وسطه الاجتماعي على شاكلته : نابذاً للجريمة وغريباً عنها ، يقدس الأمن والأمان، ويمقت العنف.

الجريمة تقع في مكان بعيد على أيدي أشخاص لا يعرفهم. في بيئة غريبة يصعب فهمها أحياناً، وكلما وقعت فوجىء بها، حتى لو كانت «بسيطة» وتصنف على أنها جنحة أو حتى مخالفة.

لا يتعايش السوي على أي وجه مع الجريمة.ومن فرط انقطاعه عنها، تبدو له مجرد حدث إعلامي تصنعه وسائل الإعلام. أو مسلسلاً تلفزيونياً. فيلماً سينمائياً، رواية، قصة قصيرة.وحتى هذه لا يستسيغها دائما. فالأصل هو الامتناع عن العنف، والجنوح الى السلم، حتى لو قتل قابيل هابيل «في فجر الخليقة».

قانون السلم ونبذ العنف، هو ناموس مدني. يتصل بالقناعة أن الدولة وحدها تحتكر العنف وتحت مظلة القانون. وأبعد من ذلك، فدور الدولة وقائي بمنع وقوع العنف لا معاقبة فاعليه ومخططيه، فحسب. والصورة الأكثر قرباً للجريمة هي الإعتداء والإيذاء وصولاً الى القتل.

الرفض التلقائي للقتل وصعوبة تصديقه، لا ينم عن روح «مثالية» بقدر ما يمثل تحصيناً لإنسانية الإنسان، وعاصماً معنوياً وعاماً من الوقوع في البربرية.

من المفارقة أن قتل فرد واحد يثير النقمة أكثر من سواه. لعل السبب يعود إلى أن متلقي الخبر الفرد، يسعه تخيل، فداحة الجريمة بالقياس عليه هو، إذ يسهل حينها تصور نفسه في موقع الضحية. كذلك الأمر حين يكون القاتل معلوماً، فالنقمة تشتد على الفاعل المعلوم المتعين، لكنها لا تجد مسرباً لها حين يكون القاتل مجهولاً. تصعب النقمة على شبح.

على هذا فالناس يتعاطفون مع ضحايا الجرائم الفردية ممن تحفل وسائل الإعلام بأخبارهم. أما الجرائم الجماعية التي يسقط فيها أعداد أكبر، فإن ارتفاع الرقم يمنع من التشخيص، من التجسد في المخيلة، فيبقى الرقم هو العالق.يقرأ القراء خبراً عن جريمة قتل،تقع في عائلة أو حي أو بين أرباب مهنة واحدة، فتثور النقمة على المرتكبين.لكن ضحايا المجازر والحروب الكثر، فيتحولون الى أرقام بلا أسماء ولا هوية. الإسرائيليون انتبهوا لهذا الأمر، ويقال إن متحف الهولوكست في تل أبيب يضم أعداداً هائلة من أسماء الضحايا وصورهم، لإنقاذهم من التعمية ومن الرقمية، ولضمان التعاطف معهم. وعقب وقوع عمليات تفجيرية كان يرتفع نصب في المكان عليه أسماء من سقطوا وأعمارهم.

باستثناء أصحاب أسماء معروفة أودت بهم آلة القتل الإسرائيلية، فلا أسماء ولا هوية محددة لضحايا الصهيونية الذين سقطوا وما زالوا يسقطون منذ ثمانية عقود. ضحايا الاحتلال والعنف في العراق هم كذلك ضحية تجهيل اسمائهم وهوياتهم.

البشر الأسوياء، وهم الكثرة الكاثرة، ينفرون أشد النفور من الجريمة. يتعذر عليهم حتى تخيلها.

محمود الريماوي: تحصين إنسانية الكائن البشري
 
26-Jun-2008
 
العدد 32