العدد 32 - ثقافي
 

عواد علي

فقد المسرح العربي قبل أيام برحيل الفنان سعد أردش (1924 - 2008)، واحداً من أبرز رواده في النصف الثاني من القرن العشرين، وأهم رموز النهضة المسرحية المصرية في الستينيات. كان لإردش الفضل، من خلال تأسيسه لـ «مسرح الجيب» عام 1961، في إحداث نقلة نوعية في المسرح المصري، تمثلت في تقديم الاتجاهات المسرحية العالمية بهدف تحقيق تفاعل واحتكاك بين المسرح المصري الناهض، وبين نبض التجريب وجرأة الريادة اللذين كانا يميزان المسرح الغربي، كما يقول الناقد الراحل علي الراعي، مثل: مسرح الغضب في انجلترا، ومسرح العبث في فرنسا، ومسرح بريخت الملحمي في برلين، وفرقة المسرح الحي والفرق المسرحية الأخرى خارج برودواي في أميركا.

كان مقدراً لهذا المسرح أن يكون إحدى النقاط الأكثر لمعاناً في تلك الحقبة المزدهرة في تاريخ مسرحنا العربي، فقدم «لعبة النهاية» لبيكيت، و(الكراسي) ليونسكو، و«القاعدة والاستثناء» لبريخت، وغيرها من النصوص العالمية. وقد هاجم فريق من المثقفين هذا المسرح، اعتقاداً منه بأن تقديم مسرح العبث هو عبث حقيقي، يتمثل في استخدام أموال الشعب لصرف الشعب عن اهتماماته الحقيقية، ودفعه إلى متاهات الحضارة الغربية الموشكة على الموت. في حين هلل فريق آخر من المثقفين لعروض هذا المسرح، وعدوها حدثاً فنياً كبيراً، ورأوا أن فيها إثراءً للحركة المسرحية المحلية، ونافذةً تطل منها هذه الحركة على كل جديد في مسارح العالم.

وقبل «مسرح الجيب» كان سعد أردش واحداً من مؤسسي فرقة «المسرح الحر»، وجزءاً من قوتها الدافعة في النصف الأول من الخمسينيات، وهي إحدى القنوات التي تدفق فيها فيض ثورة 23 يوليو في مجال المسرح. وقد اهتمت في تجاربها بالقضية الإنسانية والاجتماعية، واكتشفت عدداً من كتاب المسرح المرموقين في مصر، مثل نعمان عاشور، الذي أخرج له أردش «المغناطيس» و«الناس اللي تحت»، ومحمود دياب وسعد الدين وهبة. كما أعادت اكتشاف نجيب محفوظ مسرحياً بتحويل بعض أعماله الروائية إلى أعمال مسرحية.

أخرج سعد أردش أكثر من عشرين مسرحية، أبرزها: «لعبة النهاية» لبيكيت،«النار والزيتون» ،«عطوة أبو مطوة» لألفرد فرج، «الأرض» المأخوذة عن رواية بالعنوان نفسه لعبدالرحمن الشرقاوي، « ، «السبنسة» و«سكة السلامة» لسعد الدين وهبة، «الذباب» لسارتر، «كاليغولا» لألبير كامو، «يا طالع الشجرة» لتوفيق الحكيم، و«الإنسان الطيب» و«دائرة الطباشير القوقازية».

أخرج سعد أردش عام 1962مسرحية "في سبيل الحرية" التي كتبها الرئيس جمال عبدالناصر في سنوات الخمسينيات، وهي العمل الفني الوحيد للرئيس الراحل الذي كان أردش يعتبره كاتباً ومفكراً قبل ان يكون رئيس دولة، وكان عرضاً غنائياً واستعراضياً كبيراً وبمثابة "صرخة تنادي بتحقيق العدالة الاجتماعية والوحدة العربية " .

أما آخر عمل إخراجي لسعد أردش فكان الشبكة لبريخت وقدمها العام الماضي وعنوانها الأصلي"صعود وسقوط مدينة ماهوجوني" لكن مترجمها يسري خميس اختار لها عنوان "الشبكة " وقد أتيحت لكاتب هذه السطور فرصة مشاهدة عرضهاالذي مثلته سميحة أيوب ومحمود حميدة على خشبة المسرح القومي في القاهرة.

تجري أحداث المسرحية، التي كتبها عام 1929، في مدينة أميركية افتراضية اسمها "ماهاجوني" أو "الشبكة"، التي أسسها في الصحراء، بعيداً عن أعين الشرطة، لصوص ومحتالون. والمدينة التي يرفع مؤسسوها شعار "كل شيء مباح" أصبح لها علم تحتل مساحته صورة كبيرة للدولار، الذي يلائم طبيعتها. وتصبح المدينة ملاذاً لأثرياء تغريهم فكرة وجود مكان لا تحكمه الاّ الغرائز الجسدية (الطعام والشراب والجنس والعنف). يصل أربعة أصدقاء من الأسكا، وتغريهم المدينة التي يفاجئهم أهلها قائلين "كل شيء مباح ما دام معك فلوس"، لكن غرائزهم تتسبب في قتلهم..

في نهاية العرض تحترق المدينة بكل من فيها وما تمثله من قيم، تجسيداً للبعد التعليمي في مسرح بريخت.

إن بناء هذه المدينة الافتراضية يشير إلى صعود الرأسمالية العالمية. من هنا رأى سعد أردش أن المسرحية تتنبأ بظهور العولمة، وتتحدث عن لحظة كونية راهنة بكل تفاصيلها، حيث لا أهمية للمُثل الإنسانية النبيلة والرفيعة في مجتمع المال والاستهلاك، فيمكن شراء كل ما تريد بالمال بدءاً من المتعة الرخيصة وانتهاءً بالبشر ذاتهم، وتحديد مصائرهم.

ظل سعد أردش حتى وفاته وفياً للمسرح الجاد الملتزم، ومؤمناً بمبادئ ثورة يوليو، عادّاً نفسه ابناً شرعياً لها ولمشروعها النهضوي فنياً وثقافياً، ولذا كان يؤكد دائماً أن ظاهرة مسرح الستينيات واحدة من أهم الظواهر في تاريخ المسرح المصري، ولم يكن يتاح له أن يتأسس ويصعد إلاّ في ظل معطيات الثورة ومشروعها، وفي ظل مناخها. ويرى أن المسرح في مصر «تراجع بسبب غياب ذلك المشروع بكل تفصيلاته ابتداءً من عهد السادات، الذي شرع منذ أول أيامه عام 1970 في العصف بالبناء الثقافي أو احتوائه وتقويضه، ثم تفشى الأمر وتعاظم التراجع مع سيادة الثقافة الاستهلاكية في المجتمع، وتشجيع الدولة الأعمال الترفيهية والفودفيل». ويبدو أن عرض «الشبكة»، كما خطط له أردش، كان رسالةً تحذيرية تشير إلى النتائج التي سيتمخض عنها شيوع تلك الثقافة في المجتمع المصري. وبسبب ذلك لم تسمح له الرقابة بتقديمه مدة ربع قرن.

لم يقتصر نشاط سعد أردش على الإخراج المسرحي، بل شارك في تمثيل عدد كبير من المسرحيات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية بأدوار مميزة. وترجم مجموعة من النصوص المسرحية الإيطالية، وكتب عدداً من الدراسات والأبحاث المهمة، أبرزها كتاب «المخرج في المسرح المعاصر»، الذي صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت عام 1979، ويُعد حتى الأن أهم مرجع في اللغة العربية لدارسي تاريخ الإخراج المسرحي، والمدارس والاتجاهات والتيارات التقليدية والتجريبية التي عرفها هذا الفن في العالم.

سعد إردش: رمز حقبة مزدهرة في المسرح المصري
 
26-Jun-2008
 
العدد 32