العدد 32 - كتاب
 

الانفجار الأخير لأزمة الغذاء والقفزات القياسية السريعة والمتسارعة في أسعار مكونات سلعته الأساسية، وإلى أكثر من الضعف، وفي فترة زمنية قصيرة، ليس مستغرباً وليس مفاجئاً، بل توقعناه مع الكثير من الفعاليات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية الوطنية التقدمية محلياً ودولياً التي لاحظت ورصدت توجيهات وسياسات اقتصادية انفتاحية ضيقة الأفق في طابعها وتطلعها الطبيعي، تخلت عن مسار التخطيط الاقتصادي العلمي، وعن أهداف التنمية الاقتصادية المستدامة والمتوازنة، وعن توفير الحد الأدنى من عدالة التوزيع الاجتماعي، وفي أجواء تركز متزايد لرأس المال المستثمر في قطاعات خدمية وتجارية مستوردة، وفي نشاطات السمسرة والعقار النخبوي في البورصات وفي تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، في أسوأ أشكالها واستخداماتها، ولم يتردد العديد من ممثلي هذا التيار عن رفع الشعارات المنادية بالاندماج أو الالتحاق بقاطرة منظومة الاقتصاد الرأسمالي الدولي في مرحلة عولمته، إلى جانب الدعوة الى الانتقال من الاقتصاد الإنتاجي الى المعرفي، وكأن الأخير يمكنه أن يسد جوعاً إذا اقتصر الجهد والتطور الاقتصادي عليه وعلى فروعه.

وبالفعل، وفي مقابل التركيز على النشاطات الخدمية والعقارية والمالية، تواصل التراجع النسبي في تنمية القطاعات الاقتصادية المنتجة، وحرمت الزراعة والمزارع من الكثير من أشكال الدعم والمساندة، وساد السماح للنشاط العمراني في الأردن بأن يقضم أفضل الأراضي الزراعية ومما يقارب (860) ألف دونم منذ 1975، وظهرت دعوات صريحة داخل الحكومة وخارجها بالتخلي عن زراعة القمح والشعير وباقي المنتجات الحقلية باعتبار أنه من الأجدى اقتصادياً في زعمهم الاعتماد على استيرادها، فيما جرى أيضاً تشجيع زراعات بعض أنواع الزهور والخضراوات الهامشية بمبرر أنها أقدر على المنافسة في أسواق دولية، ولأنها تتمتع «بميزة نسبية» وتقلصت تسهيلات وخدمات متعددة للزراعة والمزارع، في الإرشاد والإنتاج والتمويل والتسويق، والتقصير في مكافحة الآفات الزراعية والوقاية من الكوارث الطبيعية وبقي «صندوق التأمين الزراعي» مجرد يافطة لشعارات ترفع ولا تطبق الى جانب تقنين وتضييق لتزويد الزراعة بالمياه، وتحويل جزء كبير منها الى المواقع والفنادق والمنتجعات السياحية التي تكاثرت كالفطر، ولأن السياحة تعتبر في رأيهم «بمثابة النفط للأردن».

هيمنة تطلعات وأفكار وممارسات كهذه في السياسات الاقتصادية الأردنية كان من شأنها التأثير سلباً في نوعية وكميات إنتاج وعرض المنتجات الغذائية في فترة تتسم بارتفاع الطلب عليها لتكون النتيجة قفزات متواصلة في أسعارها وحرمان مئات الآلاف من المواطنين من امكانية شرائها.

ما حدث في الأردن توازى وتلاءم مع توجيهات وسياسات الرأسمالية الدولية المعولمة وبخاصة الأميركية منها، التي سارت في طريق توسيع النشاطات الحركية والعقارية والمالية نفسها التي تحقق لها سقف ربحية أعلى مما تحققه الزراعة في شقيها النباتي والحيواني، ومن ثم تراجعت المساحات المزروعة وانخفض إنتاجها وعرضها وليتفاقم الوضع أكثر نتيجة توجه الرأسمالية الى تنمية إنتاج «الأغذية المعدلة جينياً» المشكوك فيها، والى بدعة إنتاج «الوقود الحيوي» من الذرة وقصب السكر، ولتقفز أسعارها وأسعار المنتجات المشتقة منها «الزيوت - الألبان ..الخ» عدة مرات.

ومع التقدير للدعوات الاصلاحية والمتواضعة التي انطلقت مؤخراً في منظمة الفاو وخارجها برصد اعتمادات مالية أكبر لتوسيع المساحات والاستثمارات الجديدة في الزراعة والمناشدة الخجولة لمكافحة الاحتباس الحراري، والتوقف عن تحويل المنتج الزراعي الى وقود حيوي، فإن ذلك لا يكفي في حد ذاته لمواجهة «الأزمة الغذائية» من جذورها التي هي جزء من الأزمة العامة الاقتصادية، إذ من الضروري استكمال ما سبق بمواجهة محلية واقليمية ودولية وقومية ومتكاملة، لمجمل توجيهات وممارسات ومضاربات قوى رأس المال الطغيان في مرحلة العولمة النقدية والمالية الأميركية، والعودة الى مسار ونهج التنمية الاقتصادية المستدامة والمتوازنة المحلية والدولية، وبمشاركة حكومية مؤثرة، كمدخل رئيس لا بد منه لتصويب التشوهات والاختلالات والتناقضات في العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.

كمفارقة نلاحظ أن أزمة الغذاء تتشابه في الكثير من جزئياتها وأسبابها وتداعياتها مع أزمة القفزات المتسارعة في أسعار النفط، وإشكالية تدهور الدولار وتفاقم المديونية والعجز في الموازنة وفي الميزان التجاري واتساع نطاق مضاربات والجراحات تمارس في أسواق العملات ورأس المال.

أحمد النمري: أزمة الغذاء .. في أسبابها وآفاق مواجهتها
 
26-Jun-2008
 
العدد 32