العدد 5 - ثقافي | ||||||||||||||
ملأ عرض فيلم عزّة الحسن الجديد قاعة “مسرح البلد” على الرغم من المطر؛ فجمهورنا معروف بالخجل وقد يبعده أصغر عارض عن أكبر حفل، في الواقع كان الجمهور حُلوا ومهتمّا ومتنوّعا عمرا وثقافة. ليست هذه المرّة الأولى التي يلبّي الجمهور المحلّيّ دعوة لفيلم لعزّة، ففي كلّ مرّة حضرت فاضت القاعة بالمخلصين والفضوليين المتحمّسين. “دايما...إتطلعي بعيونهم،” هو فيلم عن التواصل، عن أشكال متعددة للتواصل قائمة بين شعبي فلسطين واسرائيل، عدوّين لدودين ويبدو في الظاهر أنّهما على غير تواصل إلاّ أن لقاءاتهما على الحواجز وعند الجدار وفي السجون والمعتقلات تحقق أشكالا من التواصل. وإن كانت في أغلبها دونيّة، كما أشارت عزّة في الحوار الذي تلا العرض، أنّ هذه اللقاءات محددة الأدوار تضع الفلسطينيّ دون الإسرائيليّ بسبب السلطة التي يملكها الثاني وهي في فيلمها تحاول تحقيق أو تمثيل أو تركيب لقطات تضع الطرفين ندا لند. يتنقّل “دايما...إتطلعي بعيونهم” في 65 دقيقة بين عدّة شخصيّات ومواقع بحثا، من حيث المبدأ، عن شخصيّة شخص عاش في بيروت في السبعينات وتتذكّره عزّة من أيّام سكناها وأهلها هناك. كانت شخصيّة أبو الريش جزءا من المشهد اليوميّ في العاصمة اللبنانيّة حتى اختفى كما ظهر، فجأة. شخصيّة تتراوح بين الجنون واللعب، يستعطف المارّة أحيانا ومشهور بتدخينه الكثيف ولحيته الشقراء وسترته العسكرية المتّسخة المليئة بشارات متعددة من علم لفلسطين وأمريكا ولبنان وصورة تشي غيفارا وغيرها. يتذكّر الكثيرون هذه الشخصيّة وذلك لأنّه سرعان ما ظهر على شاشة التلفاز مرتديا بذلة عسكريّة حقيقيّة وإذ به كولونيل في الجيش الإسرائيليّ. لقد كان جاسوسا. عاش وتواصل مع أهل بيروت وتواصلوا معه، وهو ما تشير إليه عزّة بأنّه خرق للقانون السائد بين جماعتين متحاربتين بألاّ يتواصلا. طابع الفيلم عزّاويّ جدّا. فأفلامها دائما شخصيّة وتكون هي حاضرة بها. لا نراها في هذا الفيلم، وإن كانت هي الشخصيّة الراوية والتي تقابل الشخصيّات الأخرى وتصنع الحوارات، نسمع لهجتها العَمّانيّة المتميّزة وروح الدعابة السريع ونرى التعامل الحيويّ مع من تقابل ونشهد حياكتها لعلاقات مع غرباء متشككين من شباب فلسطينيين مقتنعين أنّها جاسوسة وجنديّ إسرائيليّ لا يضحك للرغيف السخن وصديقة تثور على أسئلتها الشخصيّة وطفل يصبح رفيقها والوحيد الذي يصدّق قصّة أبو الريش. تتحرّك وكاميرتها، ويأتي صوتها من خلف الصورة، فهي كاتبة النص والمخرجة والمصوّرة، لدى أفلام عزّة دائما صفة الفيلم الفجّ الصريح موضوعا ونوعا، ففي الكثير من الأحيان تصنع أفلامها بأصغر الميزانيّات وأبسط التقنيّات. على الرغم من تنقّل المشاهد قفزا من موضوع إلى آخر، وعدم تواصلها معا بالضرورة، إلاّ أنّ الفيلم يبقى مثيرا وشادّا للانتباه في كلّ لحظة، ذلك لأنّ في كلّ مشهد سببا للاهتمام. تعود بنا عزّة للعدوان الإسرائيليّ على بيروت في 1982، نزور غرفة جلوس خاطفة الطائرات ليلى خالد في عمّان، التي كانت في يوم أيقونة الثورة، ونحضر لعبة بين أطفال يمثلون أدوار الشرطة الإسرائيليّة التي تلاحق وتقبض وتضرب شبابا عرباً ولا نعرف أيّا من الدورين يفضّل الأطفال أن يلعبوه، وشرطيّ يقوم برقصة معاصرة في وسط سيل من السيّارات في رام الله وغيرها. في حين يصعب على العديدين الابتعاد عن التراجيديا الدراميّة والخطابيّة في الأعمال الفنيّة التي تتناول موضوع فلسطين، أحلى ما في فيلم عزّة تفاعل الجمهور ضحكا كردّ فعل للمواقف الساخرة والتهكميّة والبريئة والفكاهيّة. حيث تتمكّن المخرجة بمهارة ولأنّها خفيفة دمّ فعلا من أن تحوّل بعض المواقف وإن كانت حسّاسة أو متوتّرة إلى لحظات مضحكة وتسلّط الضوء على ما يدعو للضحك. كما تعاملت عزّة بإيجابية تفاعليّة مع الشخصيّات في الفيلم، تناولت اسئلة الجمهور بذات الروح الواثقة والصريحة والجذّابة. تراوحت أسئلة وتعليقات الجمهور من مطالبة بتغييرات في الإخراج وتعديلات في المشاهد إلى ثناء ومديح وكذلك استيضاح واستفسار. طال الحوار وتنوّع وكان من الممكن أن يستمرّ، وهذا أمر جيّد جدا فالجمهور المحليّ، كما أشرت سابقا، خجول وكثيرا ما يقف مقدّم عرض أو مخرج فيلم متوتّرا أمام جمهور صامت، إلاّ أنّ التفاعل الذي شهدناه ليلة أمس يدلّ على تواصل ناجح حققته المخرجة من خلال فيلمها هذا، وأفلام سابقة وحضورها الشخصيّ. عرضت عزّة هذا الفيلم في عدد من المدن ومنها رام الله حيث عاشت عدّة سنوات مؤخّرا، ولكن الأمر مختلف في مدينتها، حيث كبرت ودرست، هذا هو جمهور عزّة أهلها وصحبها ومعجبوها. وأدركت ليلة البارحة أنّ الجمهور يراها له أيضا، منه. عزّة الحسن هي صانعة الأفلام الوثائقيّة التي حققت النجاح بتسليط الضوء على جوانب متنوّعة من الحياة الفلسطينيّة، في مختلف المدن، والحائزة على الشهرة والجوائز العالميّة وأهلها جيران هذا الجمهور ودرست في مدارسهم ومرّت بتجارب عديدة تشبه تجاربهم وترى اشياء يرونها وكثيرا ما تتحدث بصوّتهم. |
|
|||||||||||||