العدد 5 - ثقافي
 

مع اقتراب الذكرى الخامسة والثلاثين لوفاة بابلو بيكاسو، والذكرى السبعين لتدمير “غيرنيكا” التي خلد مأساتها في اللوحة الجدارية الشهيرة، تضاعف، ربما أكثر من أي وقت آخر، عدد المؤلفات والدراسات النقدية الصادرة عنه بمختلف اللغات، وتنوعت هذه الإصدارات هذا العام بين إعادة طباعة أعمال نقدية سابقة ووضع دراسات وكتب جديدة تتحدث عن جوانب متعددة في فنه أو شخصيته.

ففي الثامن من نيسان عام 1973، توفي بابلو بيكاسو.. وهو في الثانية والتسعين على النحو الذي كان دائماً يحلم به: فبعد سهرة عادية خلال أمسية هادئة بمنزله على مقربة من (نيس) بفرنسا، توجه للنوم في ساعة متأخرة وهو يحمل معه أقلام الرسم. وفي الصباح كان كل شيء عادياً: غرفة النوم الفسيحة الهادئة، وزهور البانسيه التي أحضرها البستاني في المساء، وتصاميم رسوم على أوراق مبعثرة، وأشعة الشمس تتسلل عبر النافذة. غير أن بيكاسو كان قد رحل، وكان قبل ذلك يرسم بنهم كأنما يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة. حتى أن انغماسه واستغراقه في الرسم شغلاه قبل ذلك بعامين عن حضور الاحتفالات الضخمة التي نظمتها فرنسا في عيد ميلاده التسعين، في أكبر تظاهرة تكريمية يحظى بها فنان في التاريخ.

ذلك أنه كان يرسم وإلى جانبه رفيق حاضر غائب، ولحوح في حضوره وغيابه على السواء، هو الموت.

كانت فرشاته في هذه المواجهة اليومية الحادة هي سلاحه الوحيد، شأنها شأن بندقية المقاتل، وقلم الكاتب، ووشاح مصارع الثيران. وفي ذات يوم جاءه صديقه المقرب ومصارع الثيران الشهير لويس ميغال يسأله عما إذا كان يتعين عليه أن يعود إلى الحلبة وقد بلغ السادسة والأربعين. وكان جواب بيكاسو عميق الدلالة: «ماذا تريد أكثر من السقوط في الساحة التي تعيش من أجلها؟ إن غاية ما أحلم به أن أقع والفرشاة في يدي..».

وهكذا كان...

وعلى مدى ثمانين عاماً من الحيوية الخلاّقة المذهلة، ترك بيكاسو خلفه تراثاً، بل مجموعة تراثات فنية، لا يمكن تصور فن الرسم الحديث بمعزل عنها أو بدونها.

مائة وأربعون ألف لوحة، ومائة ألف محفورة، وأربعة وثلاثون ألف صورة تزيينية وثلاثمائة منحوتة. وفوق هذه الأرقام الفلكية ترتفع عناوين بارزة هي أسماء التيارات والمدارس الفنية التي ابتدعها بيكاسو أو أسهم في إغنائها، أو أطلقها من عقالها ثم تجاوزها صورة ديناميكية جعلت من المستحيل أن يكون له تلاميذ ومريدون دائمون. وتوجت هذه الأعمال جائزة كارنيغي (1930) وجائز ة لينين (1962) كما اشرف الروائي والمفكر أندريه مالرو يوم كان وزيراً للثقافة في فرنسا على تنظيم معرض لأعمال بيكاسو اجتذب مليون زائر. وبلغت مظاهر التكريم هذه ذروتها عندما فتح متحف اللوفر أبوابه للمرة الأولى عام 1971 لأعمال فنان على قيد الحياة في عيده التسعين.

ومع أن بيكاسو كان قد تجاوز التسعين، في السن، فقد كان لوفاته وقع المفاجأة في الأوساط الفنية العربية، لا استغراباً للحدث، بل لأن المكتبة العربية كانت تفتقر إلى أية أعمال أو دراسات يمكن أن تكون دليلاً إلى عالم بيكاسو العجيب الواسع، أو أية محاولة للدراسة والتفهم الجاد لمجموعة الظواهر الفنية والإنسانية التي ارتبطت باسم ذلك العملاق. وانحصر الاهتمام به في بضع مقالات صحفية يغلب عليها طابع التنويه الانطباعي السريع بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده التسعين. وكان من جملة هذه المحاولات الاستدراكية - وان اختلفت عنها شمولاً وعمقاً - الدراسة الشائقة التي أصدرها كمال الملاخ بعنوان “بيكاسو، المليونير الصعلوك” (1973) لتقييم هذا الفنان وجعله في متناول القارئ العادي والمتخصص على حد سواء، بأسلوب ذكي وممتع. ولم يكن بوسع أحد غير الناقد والفنان المصري المرموق أن ينجح في هذه المهمة الصعبة التي طال ترقبها، لما تتطلبه من حس نقدي أصيل وسعة اطلاع، وقدرة على تبسيط لغة الرسم الحديث الصعبة دونما مساس بجوهرها. غير أن “المليونير الصعلوك”، على أهميته، يدخل في باب التعريف بالفنان بيكاسو أكثر مما يحاول تقييمه وتبيان دوره في سياق تاريخ الفن عموماً، وفي إطار معطيات القرن العشرين ومؤثراتها الاجتماعية والسياسية بصفة خاصة.

وذلك ما حاوله الروائي والناقد الفني الماركسي البريطاني الشهير جون بيرجر في دراسة صدرت طبعتها الثامنة هذا العام “نجاح بيكاسو وإخفاقه” التي ترجمها وقدّم لها فايز الصُيّاغ (1974). ويقدم بيرجير في هذا الكتاب رؤية متماسكة وشاملة لإنجازات بيكاسو وفنه انطلاقاً من تكوينه الذاتي، والمؤثرات البيئية التي اكتنفت نشاطه الإبداعي، واعتماداً على الظروف الموضوعية التي حددت مساره الفني لمدة تزيد على نصف قرن. وهو، في ذلك، يخرج بتفسيرات تغاير أكثر مما ورد في عشرات الكتب والدراسات التي صدرت عن الفنان باللغات الأجنبية، وكانت تكتفي بالتحليلات المغرقة في الذاتية أو بالتكريم الخطابي الفضفاض. وقد أثار الكتاب عند صدوره عام 1964 جدلاً واسعاً في الأوساط الفنية والثقافية، لا لجرأته في التصدي لكثير من المفاهيم التي ارتكز إليها النقاد في تناولهم لفن بيكاسو، بل لمقولته الرئيسية بأن الفنان إنما انتهى، قضيةً، وثورةً، وصرحاً مَعْلميّاً في تاريخ الفنون في العالم الحديث، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، نتيجة لخصائص معينة تميزت بها حياته الذاتية، وانحسار الحركة الثورية.

لقد كان بيكاسو بالفعل جمهوري النزعة، يساري الميول قبل مغادرته إسبانيا إلى فرنسا في شبابه، حين بدأ سلسلة متتابعة من الثورات المضمونية والأسلوبية التي تجاوز بها آفاق المدرسة الانطباعية التقليدية، واستنَّ أو أسهم في تدشين المدارس التكعيبية والزنجية والسوريالية التجريدية. غير أنه غدا أكثر التصاقا باليسار أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي انتهت بانتصار الدكتاتورية الفاشية على القوى الجمهورية والاشتراكية وسيطرة الجنرال فرانشيسكو فرانكو على السلطة لنحو أربعة قرون. وعندما داهم سرب من طائرات ألمانيا الهتلرية المساندة لفرانكو بتدمير بلدة “غيرنيكا” في شمال إسبانيا تدميرا تاما عام 1937، رسم بيكاسو في فرنسا اللوحة الشهيرة المسماة بذلك الاسم، والتي عَـدّهـا النقاد أهم وثيقة تدين العدوان على مر التاريخ.و قد ألزم فيها بيكاسو نفسَـهُ باللونين الأبيض و الأسود مع درجات متفاوتة من اللون الرمادي، و لم يستخدم الألوان الأخرى الأكثر قدرة على التعبير كالأحمر و الأصفر و الأزرق. و مع ذلك، أصر بيكاسو على أن تكون كل لمسة في اللوحة رمزا على المأساة التي يعانيها أناس باغَـتَهم شبح الجرائم والمذابح الجماعية. وعلى الرغم من اهتمام بيكاسو في ما بعد بعدد من القضايا العامة كالسلام والتحرر، فإن هذه الانشغالات، على ما يرى بيرجير، ظلت تحتل هامشا جانبيا في مسيرته الفنية التي طغت عليها النزعة التجريبية من ذلك الحين. ولم يتحول بيرجير، وهو من ألمع النقاد البريطانيين وأكثرهم إثارة للجدل، عن هذا الموقف في المقالات التي أصدرها عن بيكاسو خلال العقود الأربعة الماضية.

ومن جملة الكتب العديد التي صدرت كذلك هذه السنة ثلاثة مؤلفات _ اثنان منها إعادة طباعة والثالث جديد - للناقد التشكيلي والمؤرخ الفني البريطاني جون ريتشاردسون، الذي عايش الفنان وكان صديقه المقرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، استعرض فيها بصورة مستفيضة ما أسماه «حيوات” بيكاسو في مختلف مراحل حياته الشخصية وأطواره الفنية: «النابغة» 1881 - 1906، «المتمرد التكعيبي» 1907-1916 و«سنوات النصر» 1917 - 1932.

ويوضح المؤلف أن بابلو بيكاسو، خلال ثمانية عقود من الرسم، وآلاف الرسوم والتخطيطات، كان من أغزر الفنانين إنتاجا. والأكثر شهرة، والأعظم نفوذا وتأثيرا في القرن العشرين، وأول فنان يحصل علي أكثر من مليار دولار من بيع أعماله أثناء سنيّ حياته. وهو لم يبدع في الرسم فحسب، وإنما في النحت والطبع والسيراميك والتصميم. وقد عاش حيوات فنية متعددة، وأحدث أكثر من أي فنان آخر، الكثير من التغيير في الفن خلال القرن الماضي. وكان بيكاسو يلتقط موضوعاته مما يراه أو يصادفه. لم يرسم زوجاته فقط بل رسم أيضا صديقاته، والبنات الخادمات، والزوار العابرين والقرويين الجوالين. وتنعكس من خلال أعماله تفاصيل حياته اليومية في جنوب فرنسا: عمل مبكر في الصباح، غداء من الخبز والسردين، قيلولة، وعشاء مع الأصدقاء؛ حياة كان فيها الكثير من البساطة.

ويعكف جون ريتشاردسون، الذي كان أستاذا للفنون في جامعة كيمبريدج، على كتابة الجزء الأخير من رباعيته عن “حيوات بيكاسو”، الذي يتطرق فيه إلى العقود الأربعة الأخيرة من حياة «فنان القرن العشرين» بلا منازع.

بيكاسو: "غاية ما أحلم به أن أقع والفرشاة في يدي"
 
06-Dec-2007
 
العدد 5