العدد 5 - ثقافي | ||||||||||||||
ترى الروائية الفلسطينية سحر خليفة أن من غير المعقول ولا المطلوب من الأديبات اللواتي يتناولن قضايا المرأة أن يكتبن كما لو كن سياسيات بالمعنى السياسي - الجندري. وتضيف صاحبة “ الصبار” و”عباد الشمس”و “باب الساحة” أن النظرة للآخر تتغير سواء كان الآخر من جنس آخر، دين آخر، قومية أخرى أو حتى فكر آخر. وحول قضاياها الروائية وأفكارها السردية ومواقفها الإبداعية، كان هذا الحوار مع سحر خليفة، المتحصلة على الدكتوراه في الأدب، والفائزة بجائزة نجيب محفوظ لعام 2006 .
هناك من يقول إن الكتابات التي تطرح قضايا المرأة وحقوقها، لا تخلو من أجندات ما، وخصوصاً الروائيات اللواتي أفرطن في تناول قضايا (الجندر)، أو أنها حسب نقاد تنطلق من رؤية الغرب النمطية للمرأة العربية، الى أي مدى يمكن أن يكون ذلك صحيحاً في الرواية العربية، وهل ينطبق ذلك على روايتك “لم نعد جواري لكم”. دعنا نفند السؤال لأنه طويل ومتداخل. بالنسبة للكتابات الروائية التي تتناول قضايا المرأة وما إذا كانت تحتوي على أجندات نسوية، فهذا بالتأكيد غير وارد، لأن الكتابات تعبر عن كاتبات، يعني أديبات، يعني فنانات. ومن غير المعقول ولا المطلوب من هؤلاء الأديبات أن يكتبن كما لو كن سياسيات بالمعنى السياسي – الجندري، أي sexual politics. الناشطات في الحركة السياسية أو الاجتماعية/ النسوية هن من قد تكون لديهن أجندات، بمعنى برامج ذات مطالب وأهداف يسعين من أجل تحقيقها. أما الأديبات، فهن يعكسن أوضاع المرأة بشكل إنساني واقعي متمرد. وهذا التمرد قد لا يكون قابلا للتطبيق في هذا الزمان والمكان. لكنه يبذر بذورا للوعي قابلة للنمو والتحقق في قضايا طالما غابت عن الوجدان العربي سواء لدى الرجال أو النساء أنفسهن. فالوعي يسبق أية ثورة منظمة ذات أطر وأجندات ومطالب. والسؤال هو أين وصلنا كأديبات وجدانيات نعكس واقع الحال، وأين وصلت الحركة النسوية المنظمة ذات الأجندات؟ بالنسبة للأديبات، فما زلن يعكسن واقعهن بشكل أدبي ـ فني ـ وجداني لأن الأدب هو هذا: فن، إحساس وانعكاس وأدوات قادرة على التعبير. أما المنظمات والأطر النسائية، فبعضها نجح في تطوير أجندات وبرامج تستند الى دراسات اجتماعية/سياسية/ اقتصادية. وأخرى ما زالت تتعثر، لكنها مستمرة وآخذة في النمو. والشق الثاني من السؤال يدور حول إفراط الروائيات في تناول قضايا المرأة. ولهذا السؤال سؤال يستحقه. والسؤال هو: من يقرر ما هو المفرط وغير المفرط؟ من يقرر ماذا نكتب وماذا لا نكتب؟ ما يجوز وما لا يجوز؟ أرجو يا صديقي أن تعيد النظر في سؤالك حتى لا أتهمك بالشوفينية والفوقية. أنا أعرف أنك لست كذلك، لكن الحذر واجب. والشق الثالث من السؤال يدور حول تهمة بعض النقاد بأننا ننطلق من رؤية الغرب النمطية للمرأة العربية. أعتقد أن هذه التهمة التي حاول البعض إلصاقها بنا باتت قديمة، وما عادت تستخدم إلا على نطاق ضيق جدا وفي أوساط معروفة بانغلاقها وتحجرها. الشباب مثلك يا صديقي باتوا يعون أهمية ما نكتب عنه وما نعانيه. باتوا يعرفون أننا كنساء ما زلنا نعاني التمييز الجنسي في كافة أشكاله ومستوياته. يكفي أن أذكرك بقانون الأحوال الشخصية المتخلف الذي ما زال يبيح تعدد الزوجات المنحرف، والطلاق غير المنضبط، والانحياز الكامل للذكر في الميراث، وحضانة الأطفال وغير ذلك. كما أذكرك بعدد جرائم الشرف التي ما زالت ترتكب في كل نواحي الوطن العربي ولا تجد الوسائل القانونية والتربوية التي تعمل على ردعها أو التقليل منها. نحن ما زلنا نعيش في زمن مزدوج القيم والقناعات رغم أننا قطعنا أشواطاً في التعليم والثقافة وحقوق الإنسان. نحن ما زلنا في مرحلة ما بين بين، يعني انفصاماً وتقمصاً لأدوار متناقضة مختلفة. نحن ما زلنا نتأرجح. لكن البداية تكمن في الوعي، ونحن الروائيات نعي هذا ونعكسه بالمشهد والكلمة، والكلمة كانت، وما زالت، عنصر تنوير، ومحرك. والشق الرابع للسؤال هو حول ما إذا كان ذلك ينطبق على روايتي لم نعد جواري لكم وغيرها؟ وجوابي هو: أنت قرر. بعد كل ما شرحته وعلقت عليه، أنت قرر. فأنا ديمقراطية التفكير ولن أصادر انطباعاتك. لك مطلق الحرية في أن تضعني في أية خانة تريد. ولكن الأهم هو أين أضع نفسي وأضعك معي، في أية خانة؟ نحن ما زلنا نتأرجح. أليس كذلك؟
تقولين إننا وقعنا في “فخ الصورة الواحدة”، هل يمكن أن تتسع الصورة لتشتمل نوعاً من المصالحات التاريخية مع الآخر؟ طبعاً، أكيد، فكل الأشياء تتغير. علاقات الناس تتغير. علاقات الشعوب تتغير. النظرة للآخر تتغير سواء كان الآخر من جنس آخر، دين آخر، قومية أخرى أو حتى فكر آخر. في الماضي كانت الحدود واضحة بين علم وعلم، أو علم وفن، أو دين ودين وما شابه. لكن الآن، هل باستطاعتك فرز الأمور وفرض الحدود بذاك الوضوح؟ أعطيك مثالاً: هل باستطاعتك الآن فصل علم الاجتماع عن الاقتصاد أو حتى الأمراض البدنية عن النفسية؟ هل باستطاعتك فصل الحاسوب عن البيئة وما يشكله الحاسوب من مؤثرات نفسية ومعرفية على الصغار، وحتى الكبار؟ هل باستطاعتك إلغاء تأثير الفضائيات على العالم وتقصير المسافة بين الثقافات؟ هل باستطاعتنا إنكار ما كان لتطور الوعي بحقوق الإنسان من أثر على شرائح مختلفة في العالم. بفضل هذا الوعي، تجد أن الشرائح الواعية بهذا الميدان، حتى لو كانت مختلفة بالدين واللون والجنس والجنسية، أقرب إلى بعضها من شرائح أخرى غير واعية ولا منفتحة. صحيح أن المصالح تظل، في النهاية، هي المتحكم في المواقف والاتجاهات والامتيازات وشن الحروب، لكن التغير والتبدل لا بد حاصل. ربما للأحسن، ربما للأسوأ، حسب الظروف، حسب الموقع. لا شيء يبقى على حاله.
تصفين الثورة في عدد من رواياتك، وخصوصا”الميراث”، “ صورة وايقونة..” و” ربيع حار” بأنها انفجارات عبثية، هل يتفق ذلك مع طروحات عقلنة المقاومة؟ وهذا أيضاً يتكرر في “مذكرات امرأة غير واقعية” التي تصور المقاتل فحلا يبحث عن المتعة (ص142)، وهل يعني إدانة مرحلة أدب المقاومة؟ في مجتمع متخلف أو مزدوج المفاهيم والقيم كالذي نعيش فيه، ما كان بالإمكان إنتاج ثورة أفضل من التي آمنا بها وعايشناها وخذلتنا. لماذا؟ لأن الثوريين هم من داخل المجتمع وليسوا فوقه. هم أبناؤه. بمعنى أنهم تشربوا قيمه وتناقضاته وتخبطاته. في مرحلة ما، قبل التجربة وتكشف الثلج عما تحته، كنا نظن أن الثوري هو رجل معصوم عن الخطأ، هو شبه نبي يحمل صفة النزاهة والقدسية ومن غير المعقول محاسبته. لكن الآن، وبعد تكرار الأخطاء والهزائم، صار لا بد من المحاسبة ومراجعة الذات. ومراجعة الذات ليست جنحة ولا جريمة، بل هي عملية حضارية - ديموقراطية توجبها الظروف والنتائج حتى لا نظل نخسر وننهزم ونتراجع. إذ لا يمكن أن يظل المهزوم على حاله. نحن نعاني. افتح التلفزيون، اسمع الأخبار، اقرأ الصحف، تمعن بالأدب، ستجد الإحساس بالمعاناة لدي الجميع، في كل دولة عربية. هذا الإحساس بالتشاؤم والانهيار والتمزق من المسؤول عنه؟ أهي الحكومات؟ أهي الأحزاب؟ أهي الطليعة الثورية التي بشرتنا بالخلاص وبدلاً من ذلك عمقت إحساسنا بالضياع والهزيمة؟ هذا ما قصدت أن أطرحه في كتاباتي. قد لا أكون أفضل شاهدة على التاريخ، لكني مواطنة وأديبة، ولدي الحق والمشروعية أن أقول ما أقول بصراحة. هذا التزام. هذا واجب.
حضور المرأة في رواية” امرأة غير واقعية” أليس امتداداً لشخصية رفيف في عباد الشمس، هل يقع ذلك في إطار التكرار أم التواصل أم النمذجة؟ لا أعتقد ذلك، فلكل منهما تجربة مختلفة. قد تكون هناك قواسم مشتركة بينهما مثل الخلفية الاجتماعية والثقافية، إلا أن هذه الصفات تشكل– كما أراها – قواسم مشتركة بين الفتيات المثقفات اللواتي ينتمين الى الطبقة المتوسطة التي استطاعت بفضل إمكانياتها المادية وانفتاحها النسبي أن تهيئ لبناتها الحصول على مستوى معقول من التعليم والثقافة. والتعليم والثقافة لا بد وأن يقودا الى الوعي. وهذا بدوره يقود الفتاة الى الوعي بالمأزق الذي تعيشه كفتاة عربية في مجتمع متناقض القيم والمفاهيم. وحين تعي وتحاول التمرد والثورة تجد نفسها متورطة أكثر. إذ إن التمرد يعزلها ويجعلها في خانة المشبوهات. ولا أحد يقبلها كمتمردة، ولا حتى زميلها في الحزب أو التنظيم، لأن هذا الزميل ما زال هو الآخر يعاني الانفصام لأنه ابن بيئته. هذا واقع رأيته ودرسته وأحصيت نسبته في مركز الدراسات النسائية الذي عملت فيه طوال 15 سنة. والشيء المثير في هذا الموضوع أن هذا الانفصام والتناقض لا يمس الرجل العربي وحده، بل رأيته ودرسته وقرأت عنه في كتابات الأديبات الأميركيات والأوروبيات. وهذا يعني أن التشابه في وضع رفيف وعفاف من حيث الوعي والتوتر والخلفية الاجتماعية لا يخصهما وحدهما، بل يتعداهما الى ثقافات وحضارات كنا نعتقد أنها تجاوزت ما نمر به في العالم العربي من تناقضات. وتحليلي هو أن المسألة تتعلق بالمصالح. فصاحب الامتيازات أياً كانت خلفيته من الصعب عليه التخلي عن امتيازاته بسهولة. وهذا بالضرورة يؤدي الى مزيد من التأزم والتمزق لدى المرأة الواعية. هذا تفسيري للتشابه بين الشخصيتين المذكورتين أو ما أسميته في سؤالك بالنمذجة. |
|
|||||||||||||