العدد 5 - ثقافي
 

في تقديمها لمشروع فني فريد، تقول الفنانة التشكيلية سَعْدى (مها أبو عيّاش) إنها قامت في الفترة الواقعة بين الخامس والثاني عشر من تشرين الثاني هي والفريق العامل معها، بمحاولة “ استعادة الدروب” عبر شوارع عمّان الممتدة من وسط البلد على 250 كيلومتراً. وطبعت على الإسفلت في هذا التدخل الفني العام شكل خطوات جند ملونة تواجه السير الآلي على طرق تنطلق من وادي وسط البلد المركزي وضواحيه في بيئات عمان الوسط المختلفة.

وتكتب في تقديم مشروعها الفني “استعادة الدروب”: “قاصداً توطيد روح المشي في عمّان، ينتشر هذا العمل الفنّي العام على طرق بنيت بانحدارها وحدتها على أثر الناس النازلين منذ الزمن الغابر على ممرات طبيعية. تستولي الآن طبقة من الاسفلت على أكثر من ربع البيئة البصرية المحيطة بهذه الطرق مكونة العنصر العامودي الأوضح والأكثر استمرارية. وبفعل هذه الطبقة ناقلاً للحركة الآلية الحديثة أصبحت أرضية صراع عفويّ بين مختلف السكان، مشاة و سائقين، في منتدى عام هو الشوارع.

وتتميز هذه التشكيلات الجبلية عن سواها بأن النازل حول التفافاتها مشياً يشعر بقوته الأشد مواجهاً المرور المتثاقل، وصعوداً تتركز رؤية السائق على المطلع الأسود المفتوح. على هذه التشكيلات سأمشي براحتي في عرض الشارع ليلاً تاركة خلفي على الاسفلت طبعات مرشوشة لأثر أقدام مشاة ملونة عملاقة، منيرة ومعاكسة لاتجاه السيارات الصاعد”.

وقد طبعت مع فريق العمل مداسات الأحذية في خمسين موقعاً موزعة في أمانة عمان الكبرى مثل: العبدلي، ووادي الحدادة، والمصدار، والوحدات، والهاشمي الشمالي والجنوبي، وعبدون، والشميساني، ووادي صقرة ، وعين غزال، وفي “الطلعات” المؤدية إلى جبال مثل: اللويبدة، والحسين، والقصور، والقلعة، والتاج ، والأخضر.

وفي سياق هذا المشروع، عملت مها أبو عيّاش في الشارع وحاورت الجمهور من مشاة وسائقين. ودونت الخواطر التالية لـ “السِّجل”

مها أبو عياش

لا تنطبق بعض مقالتي في القضاء والقدر وحوادث السير إلا على الضمير المذكر، إلا أنني اخترت كتابتها بالجوهر المؤنث تأكيداً على المساواة في المسؤولية أمام أنظمة السير. ففي بحثي عن سر العنف العشوائي المرتجل الدائم في شوارعنا بتعدد وتنوع حالات الدعس، جهدتُ لاستقراء عناصر المواجهة وِشِقَّيْها: حالة الشوارع والأرصفة والبنية العامة للأمكنة من ناحية، وحالة القوانين والناس المختلفين بين راجل وسائق من ناحية أخرى. فالواقع المعاش بإشكالياته، ومنها حتمية وقوع الحوادث، والقوانين الناظمة بشقيْها الوضعيين، العام المجسد في قانون السير والخاص المجسد بالقانون العشائري، وصلت بنا إلى حالة عنف مستقرة في نزال دائم.

وتقول السائقات، وهن فاعلات في مجال إحداث الموت في شوارعنا، إن الراجلات يتصرفن باستسهال إزاء الحاجة للعبور بين ضفاف الأمان في شوارعنا، (السابلة على أوتوستراد المطار أو الزرقاء). وفي حين أن هذه الأمكنة ليست الأبرز إحصائياً، إلا أن الجدل حولها مؤشر سلبي للحس بالمسؤولية لدى سائقاتنا. تنسى السائقات دعس أكثر من 8500 شخص بالعودة إلى الخلف في عام 2007 في الأردن. تنسى أن من شروط ترخيصها أن لا تقوم بالقيادة إلاّ بوعي تام وحذر، لأن المركبات أدوات حادة. وتنسى أن القانون لا يمنح تراخيص للمشي، وبهذا، فإن حق المشي للجميع دائم وثابت، بينما حق المركبة والسائقة مؤقت مشروط.

وكثيراً ما تسوق السائقات أمثولة تعبر عن رأيهن في قوانين السير المعمول بها: ”سقوط طفلة من شرفة أو نافذة على سيارة مصطفة أسفلها. تقع مسؤولية التعويض هنا على مالكة السيارة التي أوقفتها“. وترى السائقات هنا إجحافاً بحقهن، حيث إنهن غير مسؤولات عن حادثة السقوط. أما القوانين، فتضع المسؤولية في حادثة الارتطام سقوطاً على السيارة؛ فلو لم تكن مصطفة، فربما كانت ستتغير نتائج حالة السقوط. إذاً، فقوانين السير، في جوهرها، تضع المسؤولية عن أوضاع الشوارع وأجوائها على عهدة السائقة. وتعطيهن رخصهن للقيادة على شوارعنا في الأردن، حيث تختلف بيئات الشوارع وما حولها وشروط القيادة فيها كاختلاف منابتنا وجغرافيتنا وظروفنا المادية.

وفي حالة الوفاة إثر حادثة دعس، تتنازل قريبات المتوفاة عن حقها وحقهن الشخصي بعد أن تتقابل النساء، قريبات الداعسة والمدعوسة، وتتفقن على “عطوة” بينهن تمنع بشروطها الثأر غضبة لسقوط عزيزة جزافاً في إحدى طرقات بلادنا. ومنعاً للأذى قبل الاتفاق، وانتظاراً لبيان بنوده، تحيط رجالات الشرطة بالسرية سجلاتها حول الحادثة منعاً لفورة الدم نتيجة التفاصيل المجانية فيها. تتواجه النسوة ويتبادلن التعريف بأبرزهن كشيخات أو ذوات سلطات مادية أو اعتبارية عامة أو خاصة. وتتشكل بالتعريف كفتا ميزان مجازيتان ترجح فيها الأبرز، لا الأشد تضرراً. وتضحي لكل مقامة مقالة. يتنازلن عن الحق الخاص ويدغم في تنازلهن تنازل عن الحقوق العامة، وتذهب جهود رجالات السير في متابعة الحادثة طي الإدغام. وفي كل الأحوال فإن القوانين الوضعية بشقيها العشائري والعام ليست بصدد المحاكمة المثالية إحقاقاً للعدل المطلق (وكيف يمكن ذلك؟)، بل هي أطر توفيقية تجمع بين وقائع مادية تنتج حتماً مشكلة وقوع حوادث السير، ونساء يتنازعن حول الحقوق والحلول ضمن هذه الوقائع.

وينتج عن هذه الحلول التوفيقية إلى الآن أن السائقة قد تتضرر مادياً ومعها عائلتها أو عشيرتها، ولا تسجن مثلاً للقيادة بتهور كمن استخدم أداة حادة بغير عمد للقتل، وإنما أحدثت الموت نتيجة للإهمال. فإيقاع الأذى بغير العمد مختلف في لبّه عن إحداث الأذى بالإهمال.

تبقي القوانين العامة عهدة المسؤولية على السائقة، مفترضةً فيها القدرة عند القيادة وضمن شروط ترخيصها على تمييز أوضاع الطرقات ومحيطها حتى في الاصطفاف. أما القوانين العشائرية، فتعمل ضمن فهمها الخاص للقضاء والقدر على إزالة المسؤولية بمقولة عدم القصدية لدى السائقة. هو فهم خاص وفئوي أختلف معه. فأنا حين أسلم بالقضاء والقدر لا أترك المجال للمهملات في إحداث الموت في طرقاتنا، بل أطلب أن تواجه المتهورات قدرهن بإحقاق الحق العام في سجنهن. ولا يتخالف هذا مع حق التعويض المادي ومنع الأذى اللاحق الممكن للطرفين. بل نرى فائدة قصوى في المقابلة العشائرية لهذه الأسباب. ومن هنا نرى أن المطلوب هو القيادة بمنهجية مسؤولة تحاول بالعمل الجاد منع وقوع الحادث. وبالتأكيد ليس المطلوب قيادة تنتهي مسؤوليتها عند حد عدم القصدية”.

أبو عياش "تستعيد الدروب كمكان للحياة، لا لقلق العبور فقط".
 
06-Dec-2007
 
العدد 5