العدد 31 - كاتب / قارئ
 

بدأت سلطة الدولة بالتكوين في مرحلة مبكرة من تطور المجتمع البشري. ففي مرحلة العشيرة كانت تتمثل السلطة بزعامة شيخ العشيرة أو القبيلة، ومنذ ذلك الوقت أخذت فكرة الديمقراطية تتشكل، وكانت تجد تعبيرها في عدم الرضى عن تركز السلطة، والنفوذ في رجل واحد، وفي عصور لاحقة ونتيجة لانقسام المجتمع الى طبقات متفاوتة أصبحت الديمقراطية تفصح عن نفسها في تلك التحركات الاجتماعية العفوية الاحتجاجية ضد تركز السلطة والثروة معاً بيد الفئات العليا في المجتمع التي لجأت الى خلق الوسائل الكفيلة بحماية مصالحها، فظهرت مؤسسات جديدة لسلطة الدولة أنيط بها ممارسة القمع، والبطش ضد الشعب، ولمصلحة الحكام، وأنظمة دكتاتورية استبدادية شعارها القمع.

وأصبح للدولة مؤسساتها المختلفة من حيث تكوينها، ووظائفها، وآلية عملها كالجيش والشرطة، وأجهزة الأمن المختلفة، والقضاء، والسجون وغير ذلك.

وبما أن الدولة كانت تمثل على الدوام أداة قسر وقمع ووسيلة لا بد منها لفرض النظام العام، فقد استنتج بعض المفكرين الذين بحثوا في مشكلتي الدولة، والحرية، ووضعوا الدولة، والديمقراطية على طرفي نقيض. لكن الدولة تحولت مع الزمن الى مؤسسة عملاقة متعددة المهام والوظائف وأبرزها القمع لكبت الحريات المشروعة، وهذا يتطلب من الديمقراطيين، ودعاة الحرية إعادة بناء هيكلية الدولة، وصهر الديمقراطية في كامل بنيتها على الأصعدة الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والحقوقية كافة.

ففي عصر الجاهلية، اتسم المجتمع العربي بوجود العلاقات العبودية الى جانب العلاقات القبلية، وكان آنذاك ينقسم إلى سادة وعبيد وأحرار، وكان الأحرار يمثلون الطبقات الوسطى، وعندما جاء الرسول العربي الكريم، صلى الله عليه وسلم، بالدعوة الإسلامية كان أول من ناصره والتف حوله المضطهدون من العبيد والأحرار، وكلنا يعرف الدور الذي لعبه بلال الحبشي، وأبو ذر الغفاري، في مؤازرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومناصرته.

وفي المراحل الأولى من الإسلام، وجدت الديمقراطية بشكلها الجنيني في فكرة الشورى، وفي مرحلة الخلافة الراشدية كانت الديمقراطية تعني عدم الانفراد بالرأي، واتخاذ القرار بالتشاور مع الآخرين بصدد قضايا الحكم، وإدارة شؤون الرعية.

إن مضمون مصطلح المساواة، وسلطة الشعب موجود تراثياً منذ ظهور الإسلام على الأقل، أمّا لفظة الديمقراطية، فلم تدخل لغتنا العربية إلاّ من خلال الغرب في أواخر القرن التاسع عشر، وكل منا يتذكر بأن مناخ ممارسة الديمقراطية قد نشأ زمن الخليفة عمر بن الخطاب، فهو القائل: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا». وهو القائل: «إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوّموه بسيوفكم»، ولقد شكلت الرعية القاعدة الأساسية للثورة العباسية ضد الأمويين، وثورة القرامطة، والحركات الاجتماعية الأخرى ضد النظام العباسي.

ويعتبر ابن خلدون وفق نظريته التاريخية أن الممالك والدول تمر بالمراحل نفسها التي يمر بها الكائن الحي «ولادة - طفولة - شباب - كهولة - موت»، ونظرية ابن خلدون تتسم بطابع تطوري وليست جدلية. لأن الظاهرة عنده تنتهي بالموت وليس النشوء من جديد. وتبعاً لهذه النظرية، فإن العصر العباسي يمثل مرحلة الكهولة بالنسبة للدولة العربية اتسمت في نهاياتها بمظاهر الدعة، والاسترخاء، والترف. وترافق ذلك بانتشار مظاهر الفساد، والظلم، والاستعباد، وقيام الحركات الاجتماعية، والثورات الطبقية، الأمر الذي أدى إلى اضعاف الدولة المركزية، وتفككها، وبالتالي انهيارها وليس موتها. لأن الأمة العربية ستولد من جديد، ذلك هو منطق التطور الجدلي التاريخي.

وفي العصور الحديثة، تغيّرت الأوضاع الاجتماعية لا في الوطن العربي، فحسب وإنما في جميع البلدان والقارات، وبالرغم من أن أشكال الاضطهاد، وكبت الحريات قد تغيرت من عصر الى عصر، ومن مجتمع الى مجتمع، إلاّ أن جوهرها لم يتغير، ومع ذلك نعترف بأن العالم الأوروبي، بوجه خاص، قد حقق خطوات واسعة منذ قيام الثورة الفرنسية وحتى الآن في مجال خلق تقاليد، ومؤسسات ونظم ديمقراطية فاعلة بحيث أصبح للديمقراطية هناك جذور وتجربة غنية قابلة للتطور، إلاّ أن جذور الديمقراطية في الوطن العربي انقطعت منذ انهيار الدولة العربية، وتحولت تلك اللمحات المضيئة والتوجهات والتطلعات لحل إشكالية العلاقة بين الحاكمين والمحكومين الى تراث نعتز به، ومهمة كل المفكرين والفاعلين في المجتمع والنشطاء في مجال حقوق الإنسان، والمجتمع المدني هي إحياء ذلك التراث وإغنائه بما تكتسب من التجربة المعاصرة للشعوب التي تمكنت من بناء تجاربها الديمقراطية الخاصة بها عبر الكفاح المرير. وجسدتها في نظم ودساتير وأُطر ومؤسسات ومجتمعات مدنية تتميز بالفصل بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. وحتى عندما يحدث خرق أو تجاوز أو استغلال للقوانين من قبل الدولة أو الطبقات أو الأفراد فثمة توازن تخلقه المنظمات الاجتماعية، والأحزاب، والنقابات، والصحافة، والإعلام الحر، ونشطاء حقوق الإنسان من أجل استمرار النهج الديمقراطي ولكي يكون الرأي الحر حائلاً دون استمرار كل الخروقات على المجتمع.

إن انطلاق السياسة من قواعد وطنية، وديمقراطية، وعودة الأحزاب والانتخابات ليست تمنيات ورؤية خيالية لمستقبل العمل السياسي والديمقراطي، بل إمكانية سهلة إذا سُمح لها أن تتحقق أو إذا أتفق على تحقيقها، وبذلك تتحقق المصالحة الوطنية ويتحرر العمل السياسي من المنافقين والمتسلقين ومن رواسب القمع والقهر والمزايدات الوطنية.

إن المشروع العربي الديمقراطي، لا يستورد من الخارج، وهو ليس زيّاً نرتديه بل قوة تنبع من أعماقنا، وهو ليس هندسة وراثية بل جملة مواقف نبيلة تتشكل في خضم حياتنا اليومية.

أنور ساطع أصفري

إشكالية الديمقراطية عند العرب
 
19-Jun-2008
 
العدد 31