العدد 31 - ثقافي
 

عدنان البخيت

في أعقاب الحروب الدينية التي شهدتها بعض مناطق بلاد الشام سنة 1860م، وما تلا ذلك، اضطرت بعض الأسر المسيحية في مرج بني عامر بشمالي فلسطين للهرب الى شرقي الأردن بحثاً عن الأمن والسلام، فاستقرت واحدة منها في قرية الرفيد بلواء بني كنانة من محافظة إربد، حيث ولد سليمان الموسى سنة 1919م، في ظل الحكومة الفيصلية التي لم تعمر طويلاً، وأصبحت البلاد بعد خروجه من بلاد الشام في تموز سنة 1920م، شبه خالية من الحكم والإدارة، فقامت الزعامات المحلية بملء الفراغ وإدارة البلاد، ونشأ لدينا في شمالي الأردن عدد من الحكومات، أي الإدارات التي نادت بالاستقلال وقيام إدارة عربية دستورية وأصرت على مقاومة الحركات الصهيونية.

تلقى سليمان الموسى، تعليمه الأوّلي في كتاتيب قرية الرفيد وفي مدرستها الابتدائية، لكنه تابع الدراسة في مدارس الحصن، بلدة الاستنارة والتنوع والتعدد السكاني في بني عبيد، وفيها كان تشكيله النفسي والشخصي لما كانت تنعم به من مدارس للإرساليات، حيث تعلم اللغة الإنجليزية واطّلع على أنماط جديدة من الحياة. من هنا نجده يشتري رغم ضيق ذات يده، كاميرا للتصوير، كان يحتفظ بصور الأشخاص إلى حين وفاته، وقُدّر لهذا الشاب المتحفز أن يزور مدينة يافا في فلسطين، وأن يتجوّل في مكتباتها ويطالع صفحات الحياة فيها من البذخ والثراء، وأن يتعرّف في مرحلة مبكرة على الخطر الصهيوني الداهم. كان كلُّ من سليمان الموسى، وعيسى الناعوري، ويعقوب العودات (البدوي الملثم)، نسيجاً من الإبداع والمثابرة، والإصرار على طلب المعرفة، وهم جميعاً ينتمون إلى أرومة واحدة يلفها الفقر، والجوع، والعوز. وكلُّ منهم جرّب حظّه مع مختلف الفنون الأدبية والفكرية، وكل واحد منهم برز وأبدع، فتألّق الناعوري في الأدب، وبرز البدوي الملثم في كتابة السِيَر، بدءاً من «القافلة المنسية»، وانتهاءً بـ«أعلام فلسطين»، أما سليمان الموسى، فتميز في توثيق تاريخ الأردن المعاصر، ونجح في تدوينه على ضوء المصادر والوثائق التي اطّلع عليها بفضل تدريبه الشخصي في هذا الموضوع الصعب.

لقد عاش فترة من حياته العلمية والوظيفية في مدينة المفرق التي عمرها المهاجرون المغاربة من ليبيا، ورئيس بلديتها محمد علي عابدية، حيث وفدت إليها الأيدي العاملة من قرى إربد، وبخاصة من كتم، والصريح، وكذلك من السلط وقراها، إضافة إلى العناصر الشامية والمعانية التي رافقت نشأة قطار الخط الحديدي الحجازي، وازدانت البلدة بمعسكرات الجيش العربي الذي كان قيد التكوين، يعززها مطار عسكري للقوات البريطانية، يزامن ذلك طريق جديدة تصل الى العراق، وتركيب خطوط لنفط العراق تعبر الأردن إلى حيفا.

عايش سليمان الموسى، كل هذه التحولات الاجتماعية، فأدرك حقيقة الحياة، وهي التنوع والتعدد، وأن الأرزاق مرهونة بالإتقان والإبداع ومزاحمة الأقدام، في ظل نظام الكفاءة الذي أرساه الإنجليز وطبقوه، وعمل سليمان الموسى ضمن هذا المفهوم، واكتسب المهارات اللغوية بالعربية والإنجليزية بفضل انكبابه على تعلّمهما وإتقانهما، وانصرافه للتأليف عن الشريف الحسين بن علي، صاحب الثورة العربية الكبرى، ورافع راية النهضة، بعد أن طويت رايات الثورة العربية عن هامات بيروت وحلب ودمشق، وحل محلّها العلم الفرنسي، وتشتّت أحرار العرب بعد ميسلون، وحلّت الدمعة محل الحلم الكبير الذي مثّله فيصل ورفاقه من أحرار العرب.

لقد أوقف سليمان الموسى قلمه وعلمه بدايةً على تاريخ هذا الحلم، فوثّق للثورة العربية بمكة، وواكب تاريخ جيشها الشمالي بقيادة فيصل، ودخوله على حصانه الأبيض إلى دمشق مخلصاً لها، وإعلانه في المجلس الوطني الأول برئاسة السيد رشيد رضا عن تأسيس المملكة العربية السورية. وكان قد أعلن: «طاب الموت يا عرب والاستقلال يؤخذ ولا يُعطى»، فأصدر سليمان الوثائق والأسانيد وأوراق الأمير زيد وتاريخ الأردن، معتمداً على المصادر المتوافرة في عمان وغيرها، ثم توسع في بحوثه فاطّلع على الوثائق البريطانية بدآب وأناة، وكان قد زار لندن في العام 1971 - 1972م، أثناء إعدادي لدرجة الدكتوراه بجامعة لندن، حيث كنت ألتقيه وأسمع منه نتائج تنقيباته في الأرشيف البريطاني في محفوظات وزارة الخارجية أو دائرة الهند الشرقية، أو في جامعة أكسفورد، وغيرها.

وكان سليمان الموسى، يتّصل بالشخصيات البريطانية التي عملت في الشرق العربي، ناهيك عن الشخصيات العربية التي ضاقت عليها بلدانها فاستقرت في لندن. وفي الأسبوع الأول بعد عودتي من لندن، والتحاقي بالجامعة الأردنية، كُلِّفتُ معه والزميل علي محافظة، بجمع الوثائق المتعلقة بالحركة الفدائية في الأردن، فأصدرناها بما يزيد على ستة مجلدات باسم «الوثائق الأردنية»، وكنتُ أدعوه لإلقاء محاضرات على طلبتي، وبخاصة في قسم الدراسات العليا، فوجدته غير متسرعٍ في الكلام، ودقيق في حديثه وفي أحكامه، ويكتب بخط عربي جميل. وصدف أن زاملته في لجنة شكّلتها أمانة عمان، برئاسة الدكتور كامل أبو جابر، لتسمية الشوارع والممرات والجادات، كان من بين أعضائها المرحومان: روكس بن زائد العزيزي، ومحمود العابدي، وعبد المجيد النسعة أطال الله بقاءه. وسميّنا ما يزيد على عشرة آلاف شارع ودخلة وطريق. ومن هنا أُطلقت أسماء شهداء الجيش الأردني على الشوارع، ومثل ذلك أسماء القرى الأردنية، والفلسطينية، فأسّسنا بذلك وجوداً للذاكرة الوطنية من خلال تلك الأسماء.

كان المرحوم يشارك في أعمال مؤتمرات بلاد الشام المتعاقبة، وكثيراً ما كان يجرّه إصراره على رأيه للخلاف مع المشاركين، وأذكرُ هنا، بشكلٍ خاص، المؤتمر الأول للعلاقات العربية - التركية، الذي عُقد في أنقرة العام 1978م، برعاية من رئيس الوزراء آنذاك بلنت أجاويد، وعندما أساء مقرر المؤتمر كمال كاربات إلى دور العرب والثورة العربية، وأنها سبب هزيمة الدولة العثمانية، ثارت ثائرة سليمان الموسى ولم يهدأ إلاّ عندما تدخل الدكتور عبد الكريم غرايبة وبيّن فضل الأردنيين في إنقاذ مصطفى كمال أتاتورك. في الجلسة الختامية أُعطيت الكلمة لي لأتحدث باسم الوفود العربية، فقلت إن شريف مكة أعطى الشرعية للسلطان سليم الأول عندما أرسل ابنه بمفاتيح الكعبة، وأن الشريف الحسين بن علي استرجع الشرعية سنة 1916م، عندما خرج الاتحاديون عن الوجهة الإسلامية للدولة، وبالتالي يبقى العرب هم الذين يمنحون الشرعية، وأنهم أهل الوفاء للدولة العثمانية، وهذا غير ما يتعلمه الطلاب في المدارس بتركيا اليوم، فابتسم أبو عصام عن هذه المداخلة في الوقت الذي كانت فيه عيون الأستاذة أمل سونماز، عميدة كلية الآداب من أصول عراقية تدمع.

لقد أفنى سليمان الموسى عمره يوثّق لتاريخ الأردن، وعندما كلّفني جلالة الملك الحسين - رحمه الله وغفر له - بنشر الوثائق الهاشمية العام 1992، بدأتُ العمل مع فريق من تلاميذي، فوجدنا أن المرحوم قد قام بالاطلاع على كل الملفات والوثائق بالديوان الملكي، وذلك من خلال ملحوظاته بخطه المعروف. وبعد أن ترك العمل في أمانة عمان الكبرى، انصرف للكتابة حول تاريخ الأردن، وترجمة ما يتعلق بالوطن من كتب الرحلات أو الكتب السياسية، وأجاد عندما كتب مذكراته.

لقد عاش كل عمره في خدمة الفكرة العربية والأردن وكان يجد التكريم من المسؤولين، ولكنه كان يعيش حياة شبه متقشفة وجادة، وكان هناك أكثر من مشروع لإرساله ليقضي سنة في الجامعة الأميركية ببيروت لينال شيئاً من التدريب الأكاديمي، لكنه لم يذهب لا إلى بيروت ولا لغيرها، بل كان يواظب على عمله في بيته بأناة وصبر وعفة، لأنه لم يجد التقدير والتكريم من العالم الأكاديمي في الأردن، فكان جوابه المزيد من العمل بصمت وإصرار ليدافع عن القضية العربية وأصحابها، كان يعلم جيداً صعوبة الطريق التي سلكها بعد أن انقضت الثورة ونُفي شيخها، لكنه لم يقبل بمقولة حتمية النهاية المأساوية لأبطال الألياذة اليونانية. لقد كان يُعزي نفسه دائماً وأبداً أنه إذا ضاعت الثورة ولمّت أعلامها، فإن تجربة جعفر الطيار ليست ببعيدة لرفع راية النهضة العربية من جديد.

على مثل هذا صام سليمان الموسى، وعلى مثله أفطر. رحمك الله، فأنت نسيج فريد من الصبر والإصرار والدأب، ولم تزاحم الكثيرين على فتات الدنيا هكذا عرفتك.

سليمان الموسى - 1919 - 2008م: رفيدي عصامي وثّق ودوّن تاريخ الأردن
 
19-Jun-2008
 
العدد 31